الآخر هو الجحيم في لبنان
لكان أمراً ممتازاً لو استُبدل المقال في هذه الزاوية برابط لخطبة الشيخ ياسر عودة يوم الأحد الماضي عن القرف اللبناني المتجدّد بفعل حرب التوقيت المسيحي ضد التوقيت الإسلامي. على كل حال، يبقى تسجيل الشيخ المذكور متوافراً على "يوتيوب" وفي وسائل التواصل الاجتماعي، لكي يستمع المهتم بالهستيريا الطائفية إلى خير الكلام بما قلّ منه ودلّ.
من أين يبدأ وصف القرف اللبناني؟ يمكن أن يبدأ بكلام غير شعبي من نوع أن عبارة "الزعماء الفاسدون يستغلون الشعب المسكين"، فيها تزوير كبير. اكتشف زياد الرحباني ذلك عام 1980 في مسرحيته "فيلم أميركي طويل"، فضحك المشاهدون من قلبهم على اللقطات التي كانت تحاول أن تقول إن المشكلة تكمن فيكم أنتم أيضاً وخصوصاً. طبعاً معظم سياسيي هذا البلد فاسدون حد الإجرام وتافهون وطائفيون وسفلة وغير كفوئين وفقراء المخيلة وعديمو الأفكار، لكن الشعب، مع كل المبالغة والظلم الذي يحمله تعميم أل التعريف، غير بريء مما يُتَّهَم زعماؤه به. طائفية الجمهور هي ما تصنع القيادات الطائفية المنتخبة فعلاً وحقاً.
لم يفهم شيئاً مَن يختزل الأزمة بحملة سياسية عونية ضد الثنائي نبيه برّي ونجيب ميقاتي اللذين قررا، في جلسة دردشة مصوّرة في مكتب برّي، تأجيل اعتماد التوقيت الصيفي إلى ليل 20-21 إبريل/ نيسان المقبل، مع نهاية شهر رمضان بدل البقاء ضمن التوقيت العالمي والانتقال إلى التوقيت الصيفي ليل 25-26 مارس/ آذار الحالي، قبل أن يتقرّر اعتماد التوقيت الصيفي بدءاً من منتصف ليل اليوم الأربعاء. القرار الأول صدر بلا دراسة لتأثير ذلك في الارتباط بالعالم، بشركات الطيران وبحركة مطار بيروت والمصارف المتصلة بالتوقيت العالمي... لا شيء، مجرّد جلسة رجلين يقرّران على أي توقيت يسير لبنان وكأنهما يتناقشان بشأنٍ لا يعني إلا شخصيهما. ومنذ تلك اللحظة، خرجت كل العفاريت من تحت الأرض ليتحقّق شبه إجماع مسيحي ضد ما يصوّرونه، غباءً، "تهديداً للوجود المسيحي في لبنان".
إذاً، افتُتح السباق المسيحي على اعتبار القرار مسّاً بالوجود المسيحي، وهو مرشّح لأيام مقبلة عامرة. ومقابله افتتح بازار الرد الطائفي عند المسلمين. لكن لماذا عدم تقديم الساعة في موعدها العالمي، ما دام صيام المسلمين مرتبطاً بالفجر والمغرب، وليس بساعةٍ معينة، أي إن عدم تقديمها لن يوفّر ساعة إضافية للإفطار والسحور؟ لكن الـ"لماذا" الكبرى تخصّ المسيحيين. قالوا إن عدم تقديم الساعة يؤثر في "أعيادنا وصومنا"، وهذا كلام تافه طبعاً، فصيام المسيحيين يبدأ عند منتصف الليل وينتهي عند الساعة 12 ظهراً تماماً، بتقديم الساعة أو بتأخيرها، كذلك لا علاقة للساعة بأعيادهم القريبة، الفصح والشعانين. كل الحكاية أن سياسيَّين اثنين مسلمَين اتخذا القرار بتلك الجلسة ــ المهزلة، ولم يكن بينهما مسيحي. إلى هذه الدرجة من التفاهة وصلت أحوال عقدة الأقلية عند المسيحيين، حتى تعلن تلفزيوناتهم ومواقعهم الإخبارية ومدارسهم وجامعاتهم وكنائسهم ومستشفياتهم ومنازلهم طبعاً، الجهاد المقدّس ضد "الساعة الإسلامية". أي ضيق بالآخر هو هذا؟ أي انعدام للقدرة على تحمّل أقلّ من شهر بتوقيت شتوي إن كان الأمر يرضي المسلمين نفسياً في صيامهم من دون أن ينتقص شيئاً من المسيحيين، ولا أي شيء على الإطلاق؟
التراجع اللبناني رهيب. عام 1989، خلال الحرب الأهلية، كان ميشال عون، ما غيره، رئيساً لحكومة عسكرية. قرّر الرجل تأجيل تطبيق التوقيت الصيفي عامذاك من 1 مايو/ أيار إلى العاشر منه، إلى حين انقضاء شهر رمضان. مرّت الحادثة مرور الكرام ولم يتذكّرها أحد إلا هذه الأيام على هامش الحرب الأهلية بين الساعتين المسيحية والإسلامية. إلى هذه الدرجة كان الوضع الطائفي أفضل حتى خلال الحرب.
إنّ من ينحاز إلى وصف لبنان اليوم بـ"العصفورية" (مستشفى الأمراض العقلية)، فاته أن "العصفورية" عادة ما تكون مليئة بالطرافة التي تجاور الدراما والدموع، كمستشفى الأمراض العقلية التي تدور فيها أحداث مسرحية زياد الرحباني التي نعَتْ نظرية "الزعماء يستغلّون الشعب والشعب معتّر". لكن جنون لبنان اليوم صار مجرّداً من الطرافة، صار جنوناً من النوع الذي لا يثير ابتسامات، مجرّد قرف متسلسل وفير، لا تخفّف من قيئه حتى "حلول" جذرية من نوع تقسيم البلد.