إنصافاً للشعب اللبناني
لم تغب قضية اللاجئين السوريين يومًا عن الواجهة، إنْ في نشرات الأخبار على الشاشات، أو في مواقع التواصل الاجتماعي وغالبية الوسائط، وما زالت قضيةً تحضر في أولويات الندوات أو المفاوضات أو اللقاءات الرسمية، وهي في الواقع يمكن اعتبارها نتيجة لحلّ الأزمة السورية، مثلما هي أحد مداخل المفاوضات ومرتكزاتها في البحث عن حلول في الوقت نفسه. وها هي قضية الهجرة تُطرح في أولويات جدول أعمال القادة الأوروبيين في قمتهم في بروكسل، إذ تعتبر تركيا شريكًا مهمًّا للاتحاد الأوروبي الذي وقّع معها في العام 2016 اتفاقًا يهدف إلى وقف تدفّق المهاجرين، لقاء تقديم مساعداتٍ ماليةٍ للمنظمات الإنسانية الناشطة فيها. ولكن لقضية اللجوء في دول الجوار، خصوصا لبنان وتركيا، صدى مختلفًا عنه في باقي الدول، وأكثرها الدول الأوروبية التي توزّع عليها اللاجئون بنسب متفاوتة، كان لألمانيا النصيب الأكبر منهم، ففي تركيا كانت قضية اللاجئين بمثابة ورقةٍ للعب بين الحكومة التركية والاتحاد الأوروبي. وما زال في البال فتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأبواب للمهاجرين الطامحين للوصول إلى أوروبا في نهاية شهر فبراير/ شباط من العام المنصرم، لكن تفشّي كورونا، والقيود التي تم فرضها أدت إلى تراجع العدد. ومن نتائج الوباء أنه عمّق أزمة اللاجئين ومعاناتهم في تركيا وفي لبنان وفي دول الجوار، خصوصًا بسبب تأثر المجتمعات المضيفة بتعطيل الحياة بسبب الوباء، ما أثّر في قبول اللاجئين فيما بينهم.
تفاقم ظاهرة عدم المساواة في المجتمع اللبناني، إذ استفادت الفئات ذات الدخل المرتفع فقط من وجود اللاجئين
يمكن القول إن الدافع الأكبر في مناهضة سياسة الحكومات الأوروبية بالنسبة لقضية اللجوء، ورفض اللاجئين لدى شريحة من شعوب الدول الأوروبية سببه اليمين الشعبوي المتطرّف الذي لديه أحزابٌ فاعلة في السياسة، ومنها له تمثيلٌ لا بأس به في البرلمانات، ولكن بالنسبة للبنان تحديدًا، الموقف تجاه اللاجئين مختلفٌ بدرجة كبيرة، فلبنان يعاني منذ 2019 من انهيار مالي غير مسبوق، أدّى إلى معاناةٍ تزداد باطراد لدى شرائح من الشعب اللبناني، حتى طاولت غالبيته، خصوصا بسبب الإجراءات المصرفية التي اتبعت، وتحفّظ البنوك على الودائع وتقييد السحوبات، في الوقت الذي تنهار فيه الليرة اللبنانية، ويستشري الغلاء، وتُفقد السلع الضرورية والدواء من الأسواق، ثم جاءت جائحة كورونا والإغلاق معها، ما أدّى إلى توقف فعاليات اقتصادية كثيرة عن النشاط، وإغلاق محلات وشركات، وتباطؤ قطاعاتٍ أخرى أو توقفها، ما انعكس بشكل كبير على غالبية الشعب.
قبل الأزمة المتفاقمة في لبنان، أشار تقرير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للعام 2015، إلى أن كل دولار تم إنفاقه على المساعدة الإنسانية كان له تأثير إيجابي بنسبة 1,6 دولار، فنسبةٌ مرتفعةٌ من المساعدات كانت تحويلات مالية (44%)، ما يعني أنه سيصرفها في الداخل اللبناني اللاجئون لتأمين قوتهم، ونسبة 40% على شكل مشتريات عينية، و14% أجور للعاملين في القطاع الإنساني في لبنان، كما جاء في دراسةٍ نشرها المركز اللبناني للدراسات. وبحسب الدراسة، فإن وجودهم على الرغم من أن آثاره الاقتصادية على البلاد لم تكن سلبية، إلّا أنها أدّت إلى تفاقم ظاهرة عدم المساواة في المجتمع اللبناني، إذ استفادت الفئات ذات الدخل المرتفع فقط من وجود اللاجئين، بسبب إقبالهم على العمل في القطاعات التي لا تتطلب مهاراتٍ عالية، عدا عن أن السوري يعمل بأجر متدنٍّ، يكاد لا يصل إلى نصف أجر اللبناني. وبالتالي، إما ازداد ربح هذه الفئات أو زاد إنتاجها، ما أثر إيجابًا على المستهلكين بخفض الأسعار، هذا يعني أن المنافسة كانت في القطاع غير النظامي منخفض المهارات.
بدأ الاقتصاد اللبناني بالتدهور السريع منذ العام 2011، إلى أن انهار في 2019 وما زال
يمكن قبول هذه الخلاصة للدراسة المذكورة، خصوصا إذا ما قورنت بدراساتٍ لمراكز بحثية فيما مضى، لا سيما في البلدان المختلفة الخارجة من صراع في أفريقيا، كتنزانيا التي استقبلت لاجئين من بوروندي ورواندا، حتى على المدى الطويل، وليس خلال السنوات الأولى. إنما بالنسبة إلى لبنان، الوضع مختلف، إذ بدأ الاقتصاد اللبناني بالتدهور السريع منذ العام 2011، إلى أن انهار في 2019 وما زال، أما معدّل البطالة فقد ارتفع بين العامين 2011 و2017 من 6,2% إلى 7%، وهو على علاقة أساسية ربما بعجز الدولة عن استيعاب الخريجين اللبنانيين أكثر مما هو بسبب اللجوء السوري. لكن في العام 2020 وصل معدل البطالة، بحسب موقع مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، إلى 35%، بسبب الأزمة المتفاقمة التي ابتدأت بالتسارع منذ أكتوبر/ تشرين الأول في 2019، عندما بدأت الانتفاضة الشعبية أو الحراك الذي كان يمكن أن يصنع الفرق الشاسع، لولا مصادرته وحرفه وتفتيته من الطغمة الحاكمة التي رسّخت على مدى عقود أسباب عجز الدولة، بل وغيابها لصالح الطبقة الحاكمة القائمة على المحاصصة الطائفية.
لا يمكن عزل الحالة اللبنانية عن الحالة السورية، وإذا كانت بعض التصريحات تحمّل اللاجئين بعض أسباب خسارة الاقتصاد اللبناني، فإن الواقع يفيد بأن السبب الرئيسي هو تأثر لبنان بالحرب السورية التي أدت إلى إغلاق معابر وطرق دولية عديدة كانت الصادرات اللبنانية تمرّ من خلالها إلى باقي الدول عن طريق سورية ثم الأردن. كما أن صناعات لبنانية كانت تقوم على مراحل وسيطة في الإنتاج تتم في سورية، بسبب فرق التكلفة، إلى أن تفاقمت الأزمة السورية وانهارت الليرة أمام الدولار، وتقلّصت إمكانية الاستمرار في هذا النمط، عدا أن أعدادًا كبيرة من الشعب اللبناني كانت تقصد سورية للتسوّق والعلاج، خصوصا في دمشق وحمص، مستفيدين من فرق التكلفة بين البلدين، وتراجعت هذه الفرص أمامهم.
ضنك العيش وانهيار الأوطان، كما يحصل في لبنان، كفيلان بهدم منظومة القيم والمعارف
محطّات كثيرة في العقود الخمسة الأخيرة يمكن الوقوف عندها، وتبيّن ما سبّبته السياسة من ذاكرة لدى شرائح واسعة من الشعبين، من مواقف تجنح نحو العصبية قد تصل إلى مستوى العنصرية، خصوصا منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1976، لكنّها كانت، إلى وقت قريب، مسيطرًا عليها، باللعب السياسي أيضًا. أمّا اليوم فإن الانهيار المريع للدولتين، وما يلحقه من معاناة تتزايد وتتسع، فإن من الظلم القول إن العنصرية أو التعصب وحدهما يقفان وراء التعاطي مع قضية اللجوء السورية بهذه الطريقة، حتى الحوادث الفردية التي تكرّرت بطرقٍ مختلفة، لا يمكن البناء عليها أنها موقف شعبي موحّد أو موقف حكومي، لأنها قضية إشكالية تستخدمها كل الأطراف ورقة للعب السياسي، بينما الشعوب لو تترك لتكون صاحبة القرار وصانعة مصيرها فإن موقفها سيكون أكثر حكمةً واتزانًا. لا ننسى أن معظم المنخرطين في الحراك الرافض للنخبة السياسية، بتركيبتها وأدائها الطائفيَّين منذ بدايته، كان لهم موقف آخر تجاه اللجوء، وأنهم حمّلوا هذه النخبة، بخطابها المناوئ للاجئين، مسؤولية التدهور الاقتصادي في البلاد، وعجزها عن توفير الحلول أو البدائل.
ما يعاني منه الشعب اللبناني اليوم أكبر من التصوّر، اقتصاد منهار، دولة عاجزة، أفق مسدود أمام الحلول، بنوك شبه مفلسة، من لديه وديعة قد تكون حصيلة عمره وجهده وتعبه وضمانة تقاعده أو شيخوخته مصادرة، ومقفل عليها في وجهه. المعيشة بحدودها الدنيا صارت عملًا شاقًّا أو حلمًا لدى الغالبية. الصحة والطبابة حلم، البنية التحتية منهارة، المرافق العامة متداعية، بل الحياة بمجملها صارت كوابيس لا تنتهي، حتى السوريون الموجودون هناك يعانون من هذا الانهيار، ولا بديل أمامهم، طالما أن قضيتهم ما زالت ملقاة في بازارات السياسة على مستوى البلدين، وعلى المستويين، الدولي والإقليمي. لذلك من المجحف القول إن الشعب اللبناني عنصري. ضنك العيش وانهيار الأوطان، كما يحصل هناك، كفيلان بهدم منظومة القيم والمعارف، فالقضية صارت تهديدًا وجوديًّا بكل معنى الكلمة، مثلما هو الشعب السوري ووجوده المنتهك.