بين ترامب وألمانيا ما صنع الحدّاد
إذا لم نستطع الجزم بأن للأزمة الحكومية الحالية في ألمانيا علاقة بفوز ترامب في رئاسة الولايات المتحدة، فلا يمكن إغفال التزامن بين هذا الحدث وانفجار الأزمة بشكل صارخ، والتي تجلّت في نهاية تحالف إشارات المرور، وما يترتّب منه من عواقب وخيمة على الاقتصاد الألماني، الذي هو في وضع صعب. ومن المتوقّع أن يكون 2024 العام الثاني على التوالي من الركود، بل يتوقّع خبراء أن يشمل الركود العامَين المقبلَين، وقد يؤدّي الجمود السياسي إلى تفاقم الوضع. لم يتمكّن الطرفان، الحزب الليبرالي من جهة، والحزب الاشتراكي الديمقراطي مع "الخضر" من جهة ثانية، من التوصّل إلى اتفاق بشأن السياسة الاقتصادية وسياسة الميزانية.
بعدما أقال المستشار أولاف شولتز وزيرَ المالية كريستيان ليندر من الحزب الليبرالي، واستقالة وزيرَين ينتميان إلى الحزب نفسه من منصبيهما (وزير العدل ووزيرة التعليم)، أعلن شولتز أنه سيطلب تصويتاً على الثقة في البوندستاغ (البرلمان)، في 15 يناير/ كانون الثاني المقبل (2025). إذا فشل هذا، ستكون هناك انتخابات جديدة في مارس/ آذار المقبل. لكنّ الاتحاد المسيحي المعارض، وعلى لسان زعيم الحزب الاجتماعي المسيحي ماركوس سودر، دعا إلى إجراء انتخاباتٍ جديدةٍ سريعة. وكان آخر تصويت على الثقة، وأدّى إلى انتخابات جديدة في عام 2005 مع غيرهارد شرودر، وهو أيضاً مستشار الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
ماذا يعني فوز ترامب في الانتخابات بالنسبة للاقتصاد؟ ... بات هذا السؤال مطروحاً بكثافة على المستويين الرسمي والشعبي، وهناك مخاوف بين الاقتصاديين من أن الاقتصاد الألماني المتعثّر بالفعل سيواجه أوقاتا غير مريحة. يرى المدير العلمي لمعهد الاقتصاد الكلّي وأبحاث دورة الأعمال (IMK)، سيباستيان دولين، أن الصناعة الألمانية على وجه الخصوص معرّضة للخطر من فوز ترامب في الانتخابات، ويتوقّع الخبراء أن التعرفاتِ المحتملةَ قد تؤدّي إلى خسارةٍ تصل إلى 180 مليار يورو للاقتصاد الألماني.
وصول شخصية راديكالية إلى رئاسة الإدارة الأميركية، مدعوماً من حيتان الدولة العميقة، يجعل العالم يقف على أهبة الاستعداد بانتظار مفاجآته التي تصدم العالم باستمرار
في تصريحاته النارية، وبرنامجه الراديكالي، تحدّث ترامب عن فرض ضرائب أعلى على المنتجات من ألمانيا أو الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، وهدّد بفرض رسوم جمركية على الواردات من 10% إلى 20%، وحتى 60% على المنتجات من الصين. في الوقت نفسه، يخطّط لخفض الضرائب على الشركات في الولايات المتحدّة. فقد صرّح في منتدى ديترويت الاقتصادي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: "نريد استخدام مئات المليارات من الدولارات من التعرفات لصالح مواطنينا واستخدامها لسداد ديوننا الوطنية"، وفي خطابه أخيراً في ولاية بنسلفانيا، قال: "على الشركات الأجنبية تقديم مساهمتها في الميزانية الأميركية من خلال التعرفات الجمركية إذا لم تبن مصانع في الولايات المتحدة نفسها"، وهو يقصد بشكل خاص صناعة السيّارات الألمانية التي تعاني بالفعل من أزمة، ويمكن الإشارة هنا إلى حجم الصادرات الألمانية إلى أميركا في العام 2023، التي وصلت إلى 158 مليار يورو، يشكّل قطاع السيّارات نسبة كبيرة منها.
من البنود الأساسية، التي طرحها في حملته الانتخابية وحتى فوزه، الحرب في أكرانيا، فهو كرّر مراراً أنه سيُنهي الحرب الروسية الأكرانية خلال 24 ساعة، يبدو أن لديه خطّةً واثقةً وطموحة، إنما لا أحد يعرف فحواها وكيف سيديرها، ربّما تنتهي الحرب بوقف إطلاق نار، أو بمعاهدة سلام، أو بمفاوضات تؤدّي إلى منح روسيا بعض الأراضي في أوكرانيا، في مقابل مكاسبَ أخرى يجنيها ترامبُ بالنسبة إلى العلاقة مع الصين، لكن الواضح الأكيد أنه ضدّ مزيد من المساعدات إلى أوكرانيا، هذا ما سيفرض خياراً ثقيلاً على ألمانيا، قد يعني التوقّف عن دعم أوكرانيا مع الولايات المتحدة أو توفير مزيد من الأموال والأسلحة مع دول أخرى، لكنّ ما هو مطلوب منها أكثر من غيرها، باعتبارها الاقتصاد الأقوى في أوروبا.
سيكون لأيّ تغيير جوهري في السياسة الأميركية الأوكرانية السابقة تأثير كبير في موقف ألمانيا من الصراع، فالضغط على ألمانيا لإنفاق مزيد من الأموال على دفاعها ودعمها أوكرانيا سيزداد بشكل كبير مرّة أخرى. هذا، عدا تصريحات ترامب بشأن رفد ميزانية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فقد قالها صراحة للأوروبيين: "ادفعوا كي تنالوا الحماية"، ويدعو خبراء مقرّبون من ترامب بالفعل إلى زيادة الإنفاق الدفاعي الألماني إلى 3% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهو أكثر بكثير من هدف "الناتو" السابق البالغ 2%، ما أدّى إلى إعادة نظر ألمانيا في سياساتها الدفاعية وقدراتها العسكرية، ظهر في زيادة ميزانية الدفاع، ومناقشة قانون التجنيد مرة أخرى، وإعادة النظر في تمكين جيشها.
هذا هو دونالد ترامب يعود كما وعد في انتخابات 2020 التي خسرها، إنه عنيد لا يستسلم أمام الهزيمة، بل ولا يعترف بها، وإذا كانت أميركا الدولة الأقوى، والقطب الذي ما زال وحيداً يسيطر على العالم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن وصول شخصية راديكالية بهذه الطريقة إلى رئاسة الإدارة الأميركية، مدعوماً من حيتان الدولة العميقة، فإن العالم كلّه يجب أن يقف على أهبة الاستعداد بانتظار مفاجآته التي تصدم العالم باستمرار. هذا الرجل الذي لا يبجّل شيئاً كتبجيله لغة الأرقام والحسابات والربح والخسارة، بل من الصعب عليه أن يخسر مهما كانت الوسيلة التي توصله إلى الربح، وها هو اليوم يستأنف ما كان قد بدأه في فترته الرئاسية الأولى. ومن أكثر الأمور التي يريد فرضها أهميةً هي معايير التجارة الدولية الجديدة، وإنهاء الحروب، وفقاً لتقديراته هو في الربح والخسارة، من دون أي اعتبار لقضايا الشعوب، ومنها شعوب منطقتنا.
هناك أميركا واحدة، أميركا المنظومة، كيان موضوعي بامتياز، قائم على أعمدته وحساباته الخاصّة
في أحدث استقراء أجراه ARD-DeutschlandTrend، عن العلاقة بين الولايات المتحدة وألمانيا، والمعركة العالمية ضدّ تغير المناخ، وأمن أوروبا، والاقتصاد الألماني، والوضع في أوكرانيا والشرق الأوسط... في ما يتعلّق بهذه المجالات، يعتقد ما بين 6% و17% فقط ممّن شملهم الاستطلاع أنه سيكون من الأفضل أن يصبح ترامب رئيساً. وصار ترامب رئيساً، هذا لن يغيّر شيئاً بالنسبة إلينا، فأميركا الديمقراطية وأميركا الجمهورية سيّان، هناك أميركا واحدة، أميركا المنظومة التي لا يمكن إخضاعها لمعايير الأخلاق والقيم والشرّ والخير، هي كيانٌ موضوعيٌّ بامتياز، قائم على أعمدته وحساباته الخاصّة، لا يقوم على المشاعر والعواطف، لا يبكيه مثلاً طفلٌ يموت تحت الأنقاض أو عجوزٌ تتقطّع أوصاله، أو شعبٌ يباد. لكن، كيفما أدرنا وجوهنا سنرى ظلّ أميركا يخيّم على رؤوسنا تهديداً، فهذا الوضع المتأزم في ألمانيا، والمرشّح للتفاقم بعد وصول ترامب للرئاسة، يجلب معه حراكاً سياسياً (لدى صنّاع القرار في ألمانيا)، حول القضايا الملحّة التي تساهم في إنقاذ الاقتصاد من التأزم المتزايد، ومنها قضية اللاجئين، التي يشكّل السوريون جزءاً كبيراً منهم، والتي عدّتها الحكومة الألمانية، كما عديد من الحكومات في أوروبا، مشكلةً أساسيةً لديها، وراحت تعمل بشكل حثيث، وبانسجام أكبر بين الحكومات الأوروبية، من أجل وضع معايير أكثرَ صرامةً تجاهها، ربّما يصل الأمر حدّ ترحيل عدد كبير منهم، هذا سيكون مشكلةً مضافةً إلى ما يعانيه السوريون في مناطق اللجوء الأخرى، في العودة "الإجبارية" من دون أن تحلّ مشكلات بلدهم.