أين نُبل جنرالات السودان؟
(1)
ما فتئتُ أنظرُ إلى أحوال السودان، تتدحرج من علوٍ سامق ذات زمان، ثمّ هوَتْ إلى أدراكٍ سُفلى هذه الآونة، ولا وجيع لذلك البلد، إلا من أهله الذارفين الدّمع، السّائلين الرّحمة، لمن حصدتهم زخّات رصاصٍ بأمر جنرالات تحكّموا في مصائر البلاد، عن غفلة ثائرين وعن غيبوبة ثورة. من خرجوا من السودانيين، مطالبين بحقهم في الحياة، واجهتهم زُمَرٌ من عساكر ملثمين يصوّبون رشاشاتهم إلى صدورهم، فكأنّ جنود أولئك الجنرالات، يواجهون أعداء هبطوا من السماء، لا شابات وشباناً من غمار أهل البلد، خرجوا من أعماق تربتها، بعد أن ضاق صبرهم من سوء وظلم وفساد، ينشدون الحرية والعدالة والسلام.
(2)
ولكن رفع كثيرون أسئلة تستفسر عن هوية أولئك الجنود الذين يقتلون أبناء السودان وكأنهم أعداؤهم، يأتمرون بأوامر جنرالات، وكأنهم ليسوا من أبناء البلاد. ألم يصبر السودانيون على حكم جنرال قديم اسمه إبراهيم عبود، حكم البلاد بيد قابضة سنوات ست، من 1958 إلى أن أسقطت نظامه انتفاضة شعبية عام 1964؟ هو جنرال محترم لم يقم بانقلابٍ عسكريٍّ حسب التعريف المعلوم، لكن حزباً سياسياً طلب منه استلام السلطة في السودان، مكايدة لحزب آخر منافس، فأجبروه قسراً على تولّي حكم البلاد. حين انتفض السودانيون بسبب تصاعد الحرب في جنوب السودان، مع أسباب أخرى، لم يسقط، خلال انتفاضتهم، سوى عدد يعدّ بأصابع الكفِّ الواحدة في تلك الانتفاضة، ثم قرّر الفريق عبود التنازل طواعية وذهب إلى منزله، ولم يملك أحدٌ أن يحاسبه أو يقدّمه لمحاكمة. لم يكن الرجل ملاكاً ولا نبياً يده مغسولة بالحليب، لكنّه كان حاكماً أحسن في حالات وأخطأ في أخرى.
يزعم الجنرالات في السودان إنهم سيقودون بلادهم نحو نظام ديمقراطي، فيما هم والغون في إعادة رموز نظام البشير المباد
لعلّ من المزعج المقارنة بين جنرال نبيل حكم السودان ذات زمان، مثل الفريق إبراهيم عبّود، وجنرالاتٍ خرجوا من الجيش نفسه الذي قاده، في بدايات تكوينه ذلك الجنرال النبيل، يزعمون أنهم سيقودون بلادهم نحو نظام ديمقراطي، فيما هم والغون في إعادة رموز نظام عمر البشير المباد. هم في واد والشعب السوداني في وادٍ آخر.
(3)
وقفت طويلاً عند حكاية قصّها عليّ صديقي الأديب الصحافي السوداني عمر جعفر السَّوري، وقد كان وقتها مساعداً للأمين العام لاتحاد الصحافيين العرب من مقرّه في العاصمة السورية، في سبعينيات القرن الماضي، وقد أقام دهراً في الشام الكبير وعاشر أهلها، كبارهم وصغارهم، كما عرف عن قربٍ أدباءها وسياسييها، قال: عرفتُ سفراء لبنانيين (...)، أذكر منهم خليل تقي الدين، أحد مؤسّسي عصبة العشرة مع إلياس أبو شبكة وميشيل أبي شهلا، وهو قاصٌ وروائي يُشار إليه بالبنان. معرفتي به جاءت بمحض المصادفة. فقد دعاني اتحاد الصحافيين والكتاب الفلسطينيين، في نهاية السبعينيات، إلى حفل تكريمٍ يقيمه في بيروت، لشاعر فلسطين الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، شقيق حسن الكرمي، صاحب البرنامج الإذاعي الأشهر "قولٌ على قول" الذي قدّمه من هيئة الإذاعة البريطانية. قبلتُ الدعوة وحزمتُ الأمر على تلبيتها. عزمت على دخول لبنان من أبوابه الرسمية، وذلك بالحصول على سِمة دخول. كان لبنان، في ذلك الوقت من الحرب الأهلية، قد فرض تأشيرة الدخول على عددٍ من رعايا الدّول، ومنها السودان. لم أكن أواجه من قبل ولم أواجه من بعد مشكلة في زيارة لبنان عبر الحدود السورية قط، سواءً عن الطريق العسكري، أو من نقطة المصنع الحدودية، حيث عرفت جميع العاملين بها من ضباط ورتباء وعناصر، غير أن هاتفاً ألحَّ عليّ أن أتوجّه إلى قبرص، كي أحصل على تأشيرة لي ولوالدتي التي كانت تزورنا، وقررتْ هي العودة إلى أم درمان، عن طريق بيروت مثلما أتت. لم توجد آنذاك، كما تعلم، وحتى تلك اللحظة، سفارة لبنانية في دمشق. كانت سفارة لبنان في قبرص تقع بالقرب من فندق تشرشل، حيث أنختُ رحلي، فعبرت الشارع إليها في اليوم التالي لوصولي إلى بلاد أفروديت الساحرة، وقدّمتُ جواز سفري وجواز والدتي مع الصّور الضوئية والرسوم وغيرها، إلى الموظف القبرصي المحلي الذي دعاني إلى الجلوس في قاعة الاستقبال. بُعيد هنيهةٍ، عاد وطلب منّي مرافقته لمقابلة السّفير، فتوجّست خيفة. ظننتُ أنّ طلبي لم يلقَ قبولاً، وأنّ الرفض سيسبقه تحقيق. سألتُ الموظف عن اسم السفير، فأنبأني أنّ اسمه خليل تقي الدين. سألته إن كان يمتّ بصلة قربى للسياسي اللبناني بهيج تقي الدين، فردّ بأنهما شقيقان. اطمأن قلبي قليلاً، لأنني عرفت وزير داخلية لبنان الأسبق عن طريق الصحافي أمين الأعور، وكان يومها يصدر مجلة الكفاح العربي، ويرأس تحريرها.
رأيت الجوازين فوق منضدة السفير، لينعقد لساني، ويمسك عن النطق، وتكسو الدهشة تعابير وجهي
فور دخولي مكتبه، وقف السفير مرحّباً، ثم عرّفني على ضيوفه الثلاثة، وهم من لبنان. دعاني إلى الجلوس. قبل أن أجلس رأيت الجوازين فوق منضدته، لينعقد لساني، ويمسك عن النطق، وتكسو الدهشة تعابير وجهي. لمح، بعين القاص والروائي اللّمّاحة، ما أنا فيه من ارتباك. ابتسم وقال: كنتُ سفيراً للبنان في السودان سنوات، شهدت خلالها أحداثاً وتطورات، وعرفت من جواز سفرك أنك تمتهن الصحافة، فأحببت أن ألقاك. كانت فترة سفارتي في السودان ممّا لا أنسى قط. أنا أحمل للبلاد وأهلها طيّب المشاعر. ثم ناول الجوازين إلى الموظف وأمره بختم السّمتين عليهما، وإعادة قيمة الرسوم إليّ.
في ذلك اللقاء الأول الذي امتد ساعة ونيفاً، روى لي ولضيوفه بعض ذكرياته هناك، وسأل عن معارف وأصدقاء. حكى لنا عن استدعاء الفريق إبراهيم عبود رئيس البلاد له في ذلك اللقاء الأول الذي امتدّ ساعة ونيفاً، روى، لي ولضيوفه، بعض ذكرياته هناك، وسأل عن معارف وأصدقاء. حكى لنا عن استدعاء رئيس البلاد، الفريق إبراهيم عبود رئيس البلاد، بصورة عاجلة. قال: "تلقيت مكالمة هاتفية ذات صباح من رئيس المراسم في وزارة الخارجية، يخطرني بتحديد موعد لي مع الرئيس عبّود لأمرٍ عاجلٍ بعيد الظهر، وأنّ الأمر لا يحتمل انتظار إرسال مذكرة دبلوماسية. لم تكن بين لبنان والسودان أزمة حينئذ، ولم يكن في سماء العرب ما ينذر بشرٍّ أو يبشّر بخير. تملكتني الحيرة، وقضيت كل ذلك الصباح في ضيقٍ شديد، أقلّب الأمر يمنة ويسرى. دار بخلدي أن الحكومة اللبنانية، أو الرئيس اللبناني، قد بعث برسالة لم أدر عنها، فيها ما فيها. لم أستقر على رأي، ولم أصل إلى ما ينير لي الطريق. قرّرت أن أستعد للأسوأ. ذهبت إلى موعدي مع الرئيس عبّود، وهو رجل متواضع وودود وخجول. استقبلني فور وصولي، ولكن بفتور ظاهر من غير عداء، ثم دلف إلى الأمر الخطير الذي جعله يستعجل المقابلة.
إلى أين يسوق جنرالات السودان بلادهم، إن لم يكن إلى انهيارٍ وتشظّ، بعد أن حوّلوا نبل جنرالاتهم القدامى إلى غدرٍ وعنفٍ وغطرسة؟
استطرد السفير تقي الدين في روايته: "كان في خدمتي طاهٍ سودانيّ ماهر، ولكنه طاعن في السّن، فصار ينسى بعض الأشياء، ويتجاهل، في بعض الأحيان، أوامري وطلباتي عن قصد أو عن غير قصد، ما دفعني، في يوم، إلى تقريعه بحدّة، متناسياً فارق السّن ولطف الرجل. أتبعتُ التقريع بحسمٍ في المرتب، ولم أكتفِ بالتوبيخ، بل وجّهتُ إليه إنذاراً بالفصل إن عاد إلى ذلك. لم أحسب قط أنه سيذهب إلى رأس الدولة يشكوني إليه، وأن الرئيس سيأخذ المسألة على محمل الجدّ، إلى درجة تدفعه إلى أن يستدعي شخصياً السفير. قال لي الرئيس إنّ الرزق على الله، ولكن كرامة كلّ سوداني تعنيه هو بالذات، ولا يتسامح فيها أبداً. ولذلك أراد أن يبلغني هذه الرسالة، ولفت نظري إلى هذا الموضوع، وأنه سيكتفي باعتذارٍ للطباخ عمّا بدر مني، وأن أصرفه عن الخدمة مُكرّماً معزّزاً، إن لم أشأ بقاءه في عمله. اعتذرت للرئيس أولاً عن ثورتي على الرجل، ثم رويتُ له بعض أفعاله التي أنستني وقاري، ووعدته أنّني سأعتذر له فور عودتي إلى السفارة، وأنّه سيبقى على رأس عمله. وهذا ما جرى. لم يكن ذلك الطبّاخ من أقرباء الرئيس، كما لم يكن من قبيلته أو منطقته. هزّني ذلك الموقف الإنساني والسياسي والدبلوماسي والاجتماعي، وما شئتم من الوصف، حتى يومنا هذا".
تلك رواية خليل تقي الدين، فأين كرامة السودانيين اليوم من ذلك الموقف، في ذلك الزمان؟
(4)
انتهت هنا حكاية صديقي عمر جعفر السوري التي جاءت في رسالته لي قبل نحو ستة أعوام أو سبعة. لكن الطريف أنّ عدداً ممّن أطلعتهم عليها كاد أن ينكر وقوع ما حكى صديقي عن قصة السّفير الأديب خليل تقي الدين مع الجنرال إبراهيم عبود، وحيثيات ما دار حولها عن الطاهي السوداني الذي اختلف مع السفير اللبناني (ربما حول طاجن) فطرده الأخير من داره. لم تكن تلك خرافة، بل واقعة حدثت بالفعل لسفير لبناني في أوائل ستينيات القرن الماضي، مع حاكم سوداني وقت أن كان للسودان مكانته السامقة، وللجنرالات السودانيين نبلهم واحترامهم.
وقفتُ عند العبارة التي جاءتْ على لسان الفريق عبّود، كونهُ معنياً هو بالذات بكرامة كلّ سوداني، ولا يتسامح فيها أبداً، فسألتُ نفسي مُستعجباً، أليسَ من حقّ كلّ مواطن ينتمي لذلك البلد أن يسأل: أين موقع كرامته في قلب أولئك الجنرالات المُمسكين الآن بجميع السلطات السيادية والتشريعية التنفيذية والقضائية الآن في السودان؟ ذلك أمرٌ لم يتأتّ لأحد، إن لم أكن مبالغاً، منذ "بعانخي" الذي حكم هذه الأرض قبل نزول الأديان السماوية؟
إلى أين يسوق جنرالات السودان بلادهم، إن لم يكن إلى انهيارٍ وتشظّ، بعد أن حوّلوا نبل جنرالاتهم القدامى إلى غدرٍ وعنفٍ وغطرسة؟