أميركا ضد أميركا
تجد أميركا نفسها في حالة تصادم جوهري مع المنظومة الدولية التي ساهمت هي في بنائها وترسيخها بشكل قوي، فدورها معروف منذ إعلان وودرو ويلسون أمام الكونغرس، يوم 8 يناير/ كانون الثاني، 1918 الذي تضمن 14 مبدأ للسلم وإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى. ثم جاء الرئيس روزفلت ليؤكّد على أن "قدرنا هو أمركة العالم"، بمعنى السيطرة عليه والتحكّم فيه، وإخضاع شعوبه وحكوماته للنمط الأميركي في التفكير والحياة. وهو النمط الذي أصبح يُعرف بـ "العولمة". وبذلك جرى إضفاء الشرعية على مختلف أشكال تدخّل أميركا في مختلف شؤون الآخرين بحجة كونها "المدافعة عن العالم الحر والديمقراطية"، وهو ما ساعد العديد من الشعوب على التحرّر من الاستعمار.
تجد أميركا اليوم نفسها في تناقض صريح وفجّ مع هذا المسار المزدوج، تحرّري من جهة وإمبريالي من جهة أخرى. ويعود هذا التناقض إلى تحالفها غير المشروط مع الكيان الصهيوني. لها تقرير عن أوضاع حقوق الإنسان في العالم يصدُر سنويا عن وزارة الخارجية. لا يترُك في الغالب شاردة ولا واردة عن الانتهاكات التي تقع هنا أو هناك إلا ويتضمنها، سواء كان التقرير خاصاً بالأفراد أو الجماعات أو الأقليات. مع ذلك، عندما تعلق الأمر بإبادة جماعية مستمرّة تقع في غزّة ويرتكبها الجيش الإسرائيلي من دون خشية من أحد، يقف الرئيس بايدن أمام الجميع ليقول إنه لا يوجد ما يدلّ على أن ما يحصل إبادة، رغم أن العالم من شرقه إلى غربه يتابع المأساة لحظة بلحظة.
يناقش الكونغرس مشروع "قانون" يعطي الولايات المتحدة الحقّ في معاقبة أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، التي كانت أميركا من أكثر الدول حماسة لإنشائها ودعمها. كما كانت على استعداد لاغتيال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لمجرّد اتهامها من الدولة العبرية بأنها منظّمة إرهابية. وهناك قلق أميركي من مجمل المنظّمات الفرعية التابعة للأمم المتحدة التي ترفض التخلي عن دورها في دعم الفلسطينيين، وتقديم الشهادات الصادمة بشأن ما يجري في غزّة، مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الطفولة العالمية (يونيسف)، ومجلس حقوق الإنسان، فأميركا تعتبر أن المؤسسات الدولية المكلفة بحماية الحقوق والضامنة لتطبيق القانون الدولي على علّاته تبقى سلاحا جيدا عندما تستعمل ضد خصومها، مثل روسيا والصين، لكن الإدانة إذا وُجهّت نحو إسرائيل تنقلب الحالة، وتكشف أميركا عن وجهها الحقيقي، وتستعدّ للإجهاز على الآليات الدولية لحقوق الإنسان مهما علا شأنُها. إنها سياسة الكيل بمكيالين التي عُرفت بها، ولا تزال تلجأ إليها كلما اقتضت مصلحتها ذلك.
هذا الوجه المظلم يقابله وجه مقاوم لهذه السياسات البشعة والرجعية. هناك رفضٌ يتصاعد في العالم لهذا التغوّل الإسرائيلي الأميركي، فكلما طالت المأساة مالت الكفّة لمصلحة المظلومين أصحاب الحق والشرعية. لقد عجز الكيان الصهيوني المدجّج بأنواع الأسلحة عن تحقيق نصر فعلي ضد حركة مسلّحة هي الأصغر في العالم. وهو ما جعل العديد من الإسرائيليين، بينهم وزراء سابقون وجامعيون ومحللون سياسيون، يقرّون بأنهم خسروا الحرب، وأن جيشهم غارقٌ فعلاً في أوحال غزّة، فكبار الاستراتيجيين الصهاينة والأميركان لم يتوقعوا مطلقا أن المقاومة الفلسطينية ستصمد وستدير المعركة بكل هذا الصبر والمهارة والتخطيط المُحكم. كما لم يتوقعوا أن يتحمّل الشعب الفلسطيني كل هذا العذاب وهذه المحرقة، ويصرّ على البقاء في أرضه.
انقسمت النخبة الأميركية على نفسها. جزء فاعل يصر على مواصلة الخضوع للصهيونية إلى آخر الطريق، مهما كان حجم الضريبة التي ستدفع في سبيل هذه الحماقة. والجزء الآخر من النخبة ممثلة بالخصوص في الطلاب وجزء من هيئة التدريس يعتقد أن أميركا في حاجة إلى إنقاذ سريع قبل أن تنهار وتخسر مكانتها في العالم. ... أميركا في منعرج غير مسبوق، فهي من جهة حائرة بين رئيسٍ لم يعد يميز بين الكلمات والدلالات ومنافس له مدان قضائياً ومناهض للقوانين والمؤسّسات. ... أميركا في أزمة أخلاقية غير مسبوقة.