أميركا بدون أقنعة
كيف ستكون مشاعر الغزّيين عندما يتوجهون نحو البحر للحصول على المساعدات الغذائية من الميناء العسكري الذي ينوي الجيش الأميركي إقامته على بحر قطاع غزّة؟. سيذهب أطفال ونساء كثيرون، وربما شيوخ، تحت ضغط الجوع الذي يهدّد الجميع بالموت المؤكّد. لا أحد يلومهم على هذا، فالجوع كافر، والجائع يقبل الرغيف حتى لو قدّمه له سجّانه أو عدوه.
الرئيس بايدن هو الذي قرّر تقديم المساعدة بصفة عاجلة الى ضحايا العدوان الوحشي. و يعلم الجميع أنه ساند هذه الحرب مساندة مطلقة منذ ما يزيد على خمسة أشهر بلا هوادة. فعل ذلك بحجّة أن لإسرائيل حقّ الدفاع عن نفسها. ومن ثم، من واجب الضحايا أن يموتوا بسلاح أميركي. لم يكتف بذلك، بل زوّدها بالمال والسلاح والدفاع عنها في المحافل الدولية. وهو نفسُه الذي أمر ممثلة بلاده في مجلس الأمن بأن ترفع الفيتو خمس مرات لمنع المشاريع المقدّمة لوقف إطلاق النار لأسباب إنسانية. وهو الذي سعى ولا يزال إلى إطالة الحرب لتمكين إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة على لسان نتنياهو. وهو المستمرّ في خدمة الحكومة الإرهابية إلى النهاية، فالإدارة الأميركية مؤمنة بضرورة تدمير المقاومة، وتجريد الفلسطينيين من كل سلاح ومن كل حصن.
هو الرئيس نفسه الذي يشعر اليوم بأن الحرب يجب أن تتوقّف بصفة مؤقتة، لتستأنف بعد إبرام صفقة الرهائن. وهو نفسُه الذي يدفع نحو تحويل هذه المساعدة الانسانية الى فخٍّ من خلال اعتبارها شرطاً لازماً مقابل استسلام المقاومة وإطلاق سراح كل الرهائن من دون ذكر الطرف المعتدي، إسرائيل. بذلك تكون تصريحات بايدن مشاركة علنية ومباشرة في إفراغ المفاوضات من كل بعد جدّي. هي أشبه بمن يطلب من خصمه أن يعطيه سلاحه ويمكّنه من رقبته مقابل لحظاتٍ يتنفس خلالها قبل ذبحه. أين الدبلوماسية الأميركية التي أنتجت دهاة مثل الثعلب كيسنجر؟ كيف تدير الإدارة الأميركية ملفاً خطيراً كالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعقلية هواة؟
فقدت أميركا خلال هذه الأزمة ما تبقى لها من قيمة أخلاقية. وتورّطت عسكرياً في حروب مع مستضعفين ظنّت أنهم لقمة سهلة للجيش الإسرائيلي، فانقلب السحر على الساحر. من جهة تورّطت في قتل الأطفال والنساء داخل غزّة المغدورة، ومن جهة أخرى، تخوض حرباً مع بريطانيا ضد من؟ ضد الحوثيين في بلد من بين الأكثر البلدان فقراً في العالم. أسدٌ يتصارع مع أرنب. لكن المدهش أن هذا الأرنب استطاع أن يحشُر الأسد في زاوية ضيقة، وأن ينهال عليه ضرباً وعضّاً. ما يجري في اليمن يمكن أن يتحوّل إلى حرب استنزافٍ طويلة الأمد. والأهم أن هؤلاء المستضعفين عندما يتضامنون فيما بينهم يمكنهم أن يضعوا العملاق في فخٍّ استراتيجي غير مسبوق، فعندما يحتجز أنصار الله (الحوثيون) طاقم سفينة، وعندما يتصل بهم وسطاء لإطلاق سراح المحتجزين، تجيبهم قيادة الحركة أن "أي قرار يخصّ السفينة وطاقهما هو لدى القسام حصراً". ذلك يعني أن المقاومة لم تعُد محاصرة، وأن يدَها أصبحت أطول بكثير بفضل هذا التحالف مع الحوثيين ومع حزب الله. ورقة ضغط جديدة من شأنها تضييق الخناق على أصحاب القرار في تل أبيب وواشنطن، وتعدّل موازين القوى.
المدهش في هذا السياق ما قاله رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي، البريطاني ديفيد هيرست الذي اعتبر أن الوقت حان لكي "تتوقّف الدول الإسلامية عن لعب دور المتفرّج إزاء ما يجري في قطاع غزّة"، وعليها أن "تهدم بالأفعال الحجّة التي تبني عليها دولة الفصل العنصري ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية في القطاع بدعوى الدفاع عن النفس".
هكذا نعود إلى المسؤولية السياسية والأخلاقية للدول العربية والإسلامية بشأن ما يجري في غزّة. كيف نقنع أطفال غزّة الذين سيتلقون المساعدات الأميركية بأن تجويعهم حتى الموت ليس مسؤولية إسرائيل وأميركا فقط، وإنما أيضاً بمشاركة "إخوانهم العرب والمسلمين"؟