أسلوبان لمقابلة احتضان الحقّ الفلسطيني في الغرب
التأييد العارم للحقّ الفلسطيني على المستوى الشعبي في الغرب مؤثّر. هو فعلاً يحيي الثقة ببشر يحتفظون بمشاعر وضمير وعقل وإنسانية تتعاطى مع الناس من دون تمييز حسب دينهم ولون بشرتهم وأفكارهم وعاداتهم. لو لم تكن تلك هي أخلاق الطلاب الجامعيين والنخب من فنانين ومثقفين وأكاديميين، ومواطنين يسمّونهم "عاديين" (وكأنّ هناك مواطناً عادياً وآخر إكسترا)، متضامنين مع الفلسطينيين ومع حقهم بالحرية وبالعيش في أرضهم وأن تكون لهم دولتهم، لمَ يغامرون بالتعرض للتشهير وبخسارة وظائفهم وامتيازاتهم وأحياناً حرياتهم من خلال تظاهرات واعتصامات واستقالات من أشغالهم وتوقيع بيانات ومقالات ومجاهرة بالموقف في مهرجانات كبرى، وعبر مقاطعة خطاب لجو بايدن أو أنطوني بلينكن تحت طائلة السجن والمحاكمة؟ في ميزان المصلحة، هؤلاء خاسرون حتماً من التعبير عن قناعاتهم وموقفهم ضد غول كبير اسمه الاستثناء الإسرائيلي وامتياز أن يكون المرء صهيونياً في زمن ما بعد الحرب العالمية الثانية. لكنّ مفهوم هؤلاء للمصلحة أوسع من وظيفة وشهرة وثروة ورضى لوبيات. المصلحة عندهم من صنف من كانوا يُسمّون في زمن مضى أمميين، لا أممية الأحزاب الشيوعية التي كانت تقف إنسانيتها عند حدود عقيدتها، ولا من نوع أممية التبشيريين الدينيين ممن لهم مصلحة كبرى في إدخال كل الناس إلى جنّة دينهم، لكي يكسبوا أجراً ويزيدوا أتباع ملّتهم على حساب الآخرين. من يضحّون اليوم في الغرب تضامناً مع الفلسطينيين، لا يطلبون شيئاً في المقابل، لكن هذا لا يعفي شعوبنا التي تسمّي نفسها أم القضية الفلسطينية وأباها، من مقابلٍ ما يجب ردّه لهؤلاء المناضلين. والكلام هنا لا يعني الفلسطينيين المنكوبين غير المطلوب منهم أي التفات إلى أيّ كان، معهم أو ضدهم، مأساتهم التي لم يُستشاروا بشأنها تحيّدهم عن أي اهتمام بما يتجاوز البقاء على قيد الحياة، أو تأمين أكل وشرب وخيمة، وحماية قطعة أرض ومنزل من إرهابيي المستوطنين. كل كلام في هذه الظروف ثرثرة تافهة بالنسبة إلى أي فلسطيني تطاوله حرب الإبادة على غزة أو حملة التطهير المتدرجة للوجود الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس.
أمام العرب الذين يعتبرون أنفسهم معنيين بالقضية الفلسطينية طريقان لمقابلة احتضان هذا الحق الفلسطيني في الغرب. الأول الاقتداء بأخلاق هؤلاء المناضلين الأوروبيين والأميركيين لجهة احترام الاختلافات الموجودة بين البشر وعدم التعاطي معها على أنها جدران برلينية تفصل بين عالمين مكتوب عليهما الاقتتال وتبادل الكراهية إلى الأبد. الطريق الأول المذكور يحتّم الاعتراف بأن بين أكثر المتضامنين جرأة ونزاهة مع الفلسطينيين اليوم في الغرب، ملحدين ومثليين ونسويين وكل ما يثير حساسيات مرَضية عند عرب بالجملة. حساسيات حين تستفحل، فإنها ترسم ملامح الطريق الثاني في التعاطي مع هذه الموجة من التضامن في أوروبا وأميركا، عنوانها العريض مواصلة النظر إلى الغرب كأنه كتلة صمّاء واحدة لا تمايز بين صفوفها، ولا طبقات كثيرة واختلافات بين السماء والأرض بين ناسها، وهذا أعظم ما في الغرب، قدرته على احتمال المختلفين أحراراً تحت سقف واحد، في بلد واحد وجامعة واحدة وبرلمان واحد تحت ظلال قانون واحد عنوانه إتاحة أوسع مجال ممكن من الحرية والحقوق بشكل لا تؤذي إحداها الأخرى. والحال أنه يمكن في هذه المناسبة تذكّر مقدار الكراهية التي تفيض في تظاهرات مليونية (فعلاً مليونية) تحتضنها مدن بلدان عربية وإسلامية في كل مرة يقوم فيها موتور باستعراض حرق أوراق من القرآن في مدينة أوروبية أو أميركية، وكمّ الشتائم التي تشمل بلد هذا المعتوه ومواطنيه وثقافة غربية أقنعنا أنفسنا بضرورة محاربتها هرباً من تحدي حرية النقد والتفكير الذي تطرحه علينا في كل مرة نرى هذا التنوع الموجود عندهم، في مقابل هذا التشابه القاتل عندنا.