أخيرًا وجد لبنان شيئاً مشتركاً مع أميركا
بعد 15 جولة تصويت، نجح مجلس الشيوخ الأميركي في انتخاب الجمهوري كيفين مكارثي رئيسًا له، بعد جولات اقتراع فشلت خلالها الأغلبية الجمهورية في حشد الأصوات اللازمة لإيصاله إلى هذا الموقع. وعلى غرار جولات الاقتراع العقيمة السابقة في مجلس النواب الأميركي، لم يتمكّن النائب عن ولاية كاليفورنيا، مكارثي، من إقناع حوالي 20 نائبًا جمهوريًا من مؤيدي الرئيس السابق دونالد ترامب بانتخابه خلفًا لنانسي بيلوسي، إذ ظلّ هؤلاء على رأيهم بأنه معتدلٌ أكثر مما ينبغي. لهذا جرت مفاوضات حثيثة بينه وبين معارضيه الجمهوريين الذين لا يمكنه الفوز بالمنصب من دون أصواتهم.
قد لا يجوز وجه الشبه بين لبنان والولايات المتحدة، أي بين أعظم دولة في عصرنا الحاضر تقود النظام العالمي وتدير سياسة العالم المالية والاقتصادية وتؤثر في صنع القرار، وأفشل دولة في إدارة شؤونها الداخلية على مختلف الصعد، حيث يغرق هذا البلد في أزماته، بينما يختلف مسؤولوه على تحديد "جنس الملائكة".
لا تشابه بين البلدين، حتى في ممارسة الديمقراطية لا يتشابهان، فالديمقراطية الأميركية حقيقية، وقد أثبتت أكثر من مرّة تعزيز نظامها مبدأ احترام الديمقراطية. بينما الديمقراطية في لبنان مزيّفة، حيث تعلو فوقها الطائفية والمناطقية وتديرها مصالح الأحزاب، ليبقى لبنان بلدًا ديمقراطيًا على الورق فقط.
صحيح أن البلدين لا يتشابهان، ولكن العجز في انتخاب رئيس للمجلس النيابي الأميركي كان لافتا، وهذا ما لفت انتباه اللبناني فتوقف عنده، سيما وأن هذه المشهدية تطبق في مجلس نوابه منذ أكثر من شهرين، من دون أن تتوصل الكتل النيابية إلى إنتاج رئيس للبلاد. لم يزل رئيس مجلس النواب، نبيه برّي، يعيّن الجلسات لانتخاب رئيس للبلاد ولكن من دون جدوى، فتستمرّ المراوحة لانتخاب الرئيس من دون إحراز أي تقدم، إذ لا جديد على صعيد الحوار بين الكتل النيابية التي تشكل جبهتين متقابلتين، تتشكل كل منهما من 40 نائبًا وتدعم أحد المرشحين، وبينهم أكثر من 40 نائبًا يبحثون عن مرشّح ثالث يمكن أن يحقق فرصة توفير النصاب اللازم لجلسةٍ يفوز بها، في دورتها الثانية، بالرئاسة بالأغلبية المطلقة.
بات الشغور الرئاسي واقعًا، طالما أن الانقسام العمودي بين اللبنانيين على شكل الرئيس ودوره هو الذي يحدّد صفات الرئيس المطلوب انتخابه
على الطريقة اللبنانية، أجّل مجلس النواب الأميركي جلساته الانتخابية للتوصل إلى تسويةٍ أدّت الى انتخاب مكارثي مع أعضاء حزبه، ولكن بفارق واضح، أن اللبناني الذي يوهم شعبه بأن المشكلة في عدم التوافق الداخلي على اسم رئيس، بينما الواقع مغاير ومخالف، إذ ليس صحيحًا أن مشكلة عدم التوصل إلى إنتاج رئيس للبلاد تتوقف فقط على التسويات الداخلية، بل الصحيح أن للتدخلات الخارجية للدول الدور الحاسم، لهذا بات الداخل يطبّق سياسة "تضييع الوقت"، علّ الخارج يتفق على إسم يسيرون به نحو الرئاسة.
هذا الوضع المأزوم الذي مرّت به الولايات المتحدة في انتخاب رئاسة مجلس النواب الأميركي غير مسبوق منذ 160 عامًا، وهو قد يشلّ المؤسسة برمتها، إذ من دون رئيسٍ لهم، لا يمكن للنواب أن يؤدّوا اليمين، وبالتالي أن يقرّوا أي مشروع قانون. ويتطلب انتخاب رئيس مجلس النواب، ثالث أهم منصب في النظام السياسي الأميركي بعد الرئيس ونائبه، غالبية من 218 صوتًا. لكن الوضع المأزوم في لبنان مسبوق، وقد يصبح عُرفًا في كل مرة يعقد المجلس النيابي جلساته لانتخاب رئيس للجمهورية، فقبل وصول الرئيس السابق ميشال عون إلى قصر بعبدا مرّ البلد بشغور رئاسي دام أكثر من سنتين، وكذلك قبل انتخاب الرئيس ميشال سليمان عام 2008.
بات الشغور الرئاسي واقعًا، طالما أن الانقسام العمودي بين اللبنانيين على شكل الرئيس ودوره هو الذي يحدّد صفات الرئيس المطلوب انتخابه، وطالما أن الأطراف في الداخل ينتظرون المبادرات الخارجية للتوافق على شخصية الرئيس العتيد والمنتظر. لهذا سيتكرّر مشهد جلسة انتخاب الرئيس في لبنان، وستحظى الورقة البيضاء بأكبر عدد من أصوات النواب، وسينسحب النواب من الجلسة لعدم تأمين النصاب بانتخاب رئيسٍ بالأغلبية، بعد تعذّر التوصل إلى انتخابه بأغلبية الثلثين كما نصّت المادة 49 من الدستور اللبناني.
لم يعد الرأي العام المحلي في لبنان يعير اهتمامًا لجلسات مجلس النواب لانتخاب رئيس
لم يعد الرأي العام المحلي في لبنان يعير اهتمامًا لجلسات مجلس النواب لانتخاب رئيس، لأن صلاحيات الرئيس، رغم أن موقعه الأول في الدولة اللبنانية، لم تعد منوطةً بشخصه، بل بالسلطة التنفيذية، ممثّلة بمجلس الوزراء. كما أن الرأي العام الخارجي لديه انشغالاته الكثيرة، إذ أفاد سفير إحدى الدول الأربع المشاركة في اجتماع باريس المنتظر في شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، بمشاركة أميركية وفرنسية وسعودية وقطرية، بأن الجهود ستقتصر على تكرار المشاركين فيه الإلحاح على وجوب تسريع إنهاء الشغور الرئاسي ليس أكثر.
في المقابل، يتوقف الرأي العام الأميركي والدولي كثيرًا عند فشل مجلس النواب الأميركي في انتخاب رئيس له؛ إذ ناقشت الصحف البريطانية هذه الأزمة، وتطرّقت صحيفة الغارديان إلى فشل الحزب الجمهوري في حسم رئاسة مجلس النواب رغم فوزه بالأغلبية، واعتبرت أن هذا يُظهر عجز الحزب في حكم الولايات المتحدة. وقد لا تتوقف المشكلة عند التوصل إلى انتخاب رئيس للمجلس النيابي في أميركا، إذ مهما طالت الفترة سيتمّ التوصل الى تسوية داخلية، وهكذا حصل بعد 15 جلسة تصويت، لأن المصلحة الأميركية ستبقى هي الأهم. لكن المشكلة عند اللبناني أنه لا يأبه بمصالح بلاده بقدر ما يعمل على ربط مصير لبنان بمحاور لا تخدم إلا الدول الداعمة للأفرقاء الداخليين.