الرفرفة في أوكرانيا ولكن أين الفوضى؟
توصّل عالم الرياضيات والأرصاد الأميركي إدوارد لويرنتز، قبل 40 عاماً، إلى فكرة "أثر الفراشة"، وهي أن رفرفة جناح هذا المخلوق الصغير في مكان بعيد مثل الصين قد يتسبّب في وقوع أعاصير وفيضانات في مناطق أبعد، مثل أميركا وأفريقيا، ثم تطوّرت الفرضية ضمن ما سميت نظرية الفوضى. ... إن حاولنا تطبيق هذه النظرية على الصراعات الدائرة في الشرقيْن، المتوسط وأوروبا، لتوقفنا عند رفرفة الأجنحة فوق هاتين الساحتين، لتساءلنا عن الساحة المستهدفة في إيجاد الفوضى فيها؟
في قراءة موضوعية للأحداث، يتراءى أن الولايات المتحدة هي من جعلت الفراشات ترفرف فوق أوكرانيا، من خلال تقديم الدعم العسكري بشكلٍ لا مشروط إلى كييف. كما أنها قامت بذلك في الشرق الأوسط عبر دعم إسرائيل في حربها على محور الممانعة، في مقدّمتها إيران.
إذا تابعنا السياسات الأميركية الخارجية لكل من دونالد ترامب وكامالا هاريس، يجد المتابع أن الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، يضعان الصعود الصيني ضمن سياسة "الاحتواء"، فالخطر الرئيسي الذي يواجه الأميركي، على صعيد نقل المركز المالي العالمي من نيويورك إلى شنغهاي، هي الصين، في إعادة رسم خريطة طريق الحرير، في سبيل عودة التاريخ إلى الوراء، وإعادة الاعتبار لما كان يعرف بالعالم القديم، خارج النفوذ الأميركي.
تريد واشنطن أن تبقى الجبهة مشتعلة، لأنّ روسيا إلى جانب الصين يعملان على إحداث تغيير في النظام الدولي القائم
دخل الصراع الأميركي الصيني مرحلة جديدة من التوتر، حيث انتقل من الحرب الاقتصادية إلى دعوة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، جيش بلاده إلى ضرورة الاستعداد للحرب. كيف لا والولايات المتحدة لا توفّر فرصةً إلا وتستفزّ الصين، كما تفعل في جزيرة تايوان التي جعلتها عائمة على السلاح.
تحتاج بكين إلى ممرّات رئيسية لمسار صعودها، لهذا شبكت علاقاتها مع روسيا وإيران، على اعتبار أن روسيا مفتاح يشكّل ضمان الاستقرار لدول وسط آسيا والعمق الأوروبي. في المقابل، هي تعتبر الشرق الأوسط ركيزة مهمة لتمتين نفوذها في المنطقة وأفريقيا، فكان لا بدّ لها من توقيع الشراكة مع طهران على أساس المعاهدة التي وقعت في مارس/ أذار عام 2021، مدّة 25 عاماً.
ليست المواقع الاستراتيجية هي ما تفتش عنه الصين مع إيران وروسيا، ولكن النمو الاقتصادي المتسارع يحتاج إلى ما تفتقده الصين، الطاقة. لهذا استغلت الصين العقوبات الغربية التي فرضت على الطاقة الروسية والإيرانية، والتفّت عليها وأوجدت "أسطول الظل" الذي يُدخل النفط والغاز إلى الصين بأسعار أرخص من السعر العالمي.
تفرض واشنطن نمطية الصراع على أوكرانيا من خلال إطالة أمد الحرب، بغرض استنزاف روسيا في ساحة الميدان. لهذا تريد واشنطن أن تبقى الجبهة مشتعلة، لأنّ روسيا إلى جانب الصين يعملان على إحداث تغيير في النظام الدولي القائم، فالحرب الدائرة تدفع روسيا إلى تحويل اقتصادها إلى موازنة حرب، من خلالها تجيير كل الإيرادات إلى التسلح، بهدف استمرارية القتال. كما تصبح الطاقة البشرية، وقوداً في هذه الحرب. لهذا وجد بعضهم أنّ إسناد كوريا الشمالية روسيا، بأكثر من عشرة آلاف عسكري للمشاركة في المعارك في منطقة كورسك الروسية دلالة واضحة على الحاجة الروسية لتجنيد الآلاف.
تعتبر الولايات المتحدة أن نشر الفوضى هو السلاح الأشد فتكاً لطموح التوسّع الصيني في العالم
في أوكرانيا حرب قابلة للاشتعال والتوسّع، خصوصاً مع قيام موسكو بمناورات نووية، في ضوء تصريحات غربية ببدء السماح لقوات كييف باستخدام أسلحتها ذات المدى الطويل لضرب العمق الروسي. مناورات شرق أوروبا، بنكهة أميركية من أجل سحب ورقة أساسية من يد بكين، في مواجهة الغرب، وهي موسكو، كما تعمل على سحب ورقة ثانية من يدها، عبر تفعيل الصراع في الشرق الأوسط.
بدأت حرب غزّة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، لكنّها سرعان ما أخذت حيّزاً من الصراع الإقليمي، تمثلت في الرد والرد المقابل، بين إيران وإسرائيل، من خلال الضربات المتبادلة. هذه الحالة بين البلدين مرشّحة للتصعيد، سيما بعدما دعا المرشد الأعلى في إيران، على خامنئي، في 29 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الاول) جيش بلاده بالردّ على القصف الجوية الإسرائيل في منطقة كرج وطهران.
الانزلاق نحو حرب كبرى، مطلب أميركي، رغم الحديث الذي اعتبر أن واشنطن لا تريد توسيع الحرب، لكنّ الواقع يبرز العكس، على اعتبار أن فرملة الطموح الصيني يكون من خلال تعطيل ركائزه، سيما الإيراني منها. لكنّ التعطيل ليس هو السبيل الوحيد لدى واشنطن، بل إن إيجاد ممر قديم جديد هو الممر الاقتصادي الهندي يعتبر أسلوباً آخر من الصراع الصيني الأميركي، هو الممر الذي جرت الموافقة عليه في سبتمبر/ أيلول 2023 ضمن قمّة مجموعة العشرين في نيودلهي.
ربما سعت واشنطن إلى رفرفة الأجنحة فوق روسيا وإيران، لكنّ الرياح قد تسير عكس سفنها
تعتبر الولايات المتحدة أن نشر الفوضى هو السلاح الأشد فتكاً لطموح التوسّع الصيني في العالم. فالصين التي سعت عبر دبلوماسيتها لإيجاد استقرار في أكثر من منطقة، بهدف تمرير "الطريق والحزام" لإنجاحه، تجد واشنطن أمامه أنها ملزمة في إحداث الفوضى على طريقة عالم النفس مارتن كروزر لإعادة بناء الشخصية كما تريدها.
ربما سعت واشنطن إلى رفرفة الأجنحة فوق روسيا وإيران، لكنّ الرياح قد تسير عكس سفنها، وقد تصل الفوضى إليها. يجد بعضهم أن التشظي الذي تشهده السياسة الخارجية الأميركية من خلال المبالغة في تمويل الحروب في العالم قد تنعكس سلباً على اقتصادها، ما يجعلها حقيقة أمام فوضى داخلية وأخرى دولية في دبلوماسيتها، لا سيما أن كثيراً من الدول الذين شكلوا على مدى طويل حلفاء الأمس هم أخصامها اليوم، على سبيل المثال السعودية التي قدّمت طلب الانضمام إلى بريكس المجموعة التي تقف في مواجهة دول مجموعة السبع الغربية.