"فاجعة السلط" والكلفة السياسية
عاد الحراك إلى الشارع الأردني خلال اليومين الماضيين، فور وقوع فاجعة مستشفى السلط الحكومي (وفاة سبعة مرضى كورونا بسبب انقطاع غاز الأكسجين عن الأجهزة نتيجة الإهمال الإداري)، إذ انطلقت مسيرات في عدة محافظات احتجاجاً على الوضع الراهن. وعلى الرغم من أنّ الاحتجاجات محدودة العدد، إلا أنّ الظروف الاقتصادية السيئة، المتزاوجة مع حالة من الاحتقان السياسي الواضحة في البلاد، تخلق بيئة مناسبة لارتفاع وتيرة الحراكات وانتشارها، بخاصة أنّ هنالك دعوات متزايدة على منصّات التواصل الاجتماعي إلى إحياء الذكرى العاشرة لحركة 24 آذار (شهدت اجتماع آلاف الشباب حينها يطالبون بالإصلاح السياسي، وانتهت إلى فضّها عبر الدرك بالقوة). ما حدث في مستشفى السلط هزّ الشارع الأردني، ودفع الملك عبدالله الثاني إلى الذهاب إلى المستشفى، مباشرة بعد الحادثة، وتأنيب مديره بصورة غير مسبوقة ولا معهودة في الحياة السياسية الأردنية، وقبل ذلك كان وزير الصحة يعلن استقالته، ثم تم الإعلان عن توقيف مدير المستشفى وعدد من مساعديه، وإحالة الموضوع إلى القضاء للتحقيق فيه، بالتزامن مع أمر الملك بتشكيل لجنة تحقيق عسكرية!
ويبدو أنّ هذه الخطوات جميعاً لم ترض الشارع، بخاصة أنّ جلسة مجلس النواب جاءت باهتة تعكس تكلس اللعبة السياسية، وعجزها عن الوصول إلى تطلعات الشارع، على الرغم من أنّ هذا المجلس لم يمرّ عليه إلا بضعة شهور، والتلكؤ في استقالة الحكومة عزّز الصوت الاحتجاجي الغاضب. والمفارقة أنّ الحكومة الحالية شهدت، منذ ولادتها في أقل من خمسة أشهر، إقالات وزراء عديدين وتعديليْن، ولم تقدّم حتى اللحظة أي برنامج سياسي أو اقتصادي للتعامل مع التحديات التي تواجه الأردن في مرحلةٍ ليس أقل من وصفها بأنّها من أدقّ وأخطر المنعرجات التاريخية لحجم التحولات والمتغيرات الاقتصادية والسياسية والديمغرافية التي حدثت، من دون أن تواكبها العملية السياسية أو تستطيع الاستجابة لها.
إذا كانت العملية السياسية غير قادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة؛ فإنّ الاختلال سيحدُث ويهتز التوازن والاستقرار
هنا، يا سادة، بيت القصيد، لأنّ أساسيات العملية السياسية تتمثّل بالتوازن بين المدخلات والمخرجات، المطالب والقرارات، فإذا كانت العملية السياسية غير قادرة على استيعاب المتغيرات الجديدة؛ فإنّ الاختلال سيحدُث ويهتز التوازن والاستقرار، وهي مرحلةٌ يمكن القول إنّ الأردن دخل فيها منذ مدة، وقطع مسافات شاسعة، فوصلت الأمور إلى وضعٍ حرج تتطلب تغييرات جوهرية وحقيقية!
مشكلة كبيرة إذا كانت مؤسسات الدولة غير قادرةٍ على التقاط حالة الشارع والتحولات التي تحدث فيه منذ مدّة، وأزمة جيل كبير من الشباب يعاني من الشعور بالتهميش السياسي والاقتصادي، وتراكم معدلات البطالة وارتفاع منسوب الفقر، بالتوازي مع صعود دور مواقع التواصل الاجتماعي التي تعيد تشكيل المجال العام ومفهوم الاتصال السياسي، بينما أصبحت الأساليب التقليدية في إدارة الدولة، وفي التعامل مع الشارع، وفي تشكيل الحكومات، غير فاعلة اليوم في استيعاب التحولات المذكورة.
بكلمة واضحة، انتهت في الأردن مدة الصلاحية للأدوات التقليدية في إدارة الدولة، وأصبح الاعتماد عليها كما هو تناول أطعمة منتهية الصلاحية يؤدّي إلى التسمم والوفاة! وتكفي الإشارة إلى أنّ سلوك الحكومات ومجالس النواب أصبح مادّة يومية للسخرية والنكتة من الشارع ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. هكذا بدت الحال في تعامل الحكومة مع حادثة السلط (مع التندّر على عدد لجان التحقيق وتشعبها وتضاربها وعدم جدواها) وجلسة مجلس النواب التي تمنح الغالبية مادة خصبة لاجتراح المواقف الكاريكاتورية، في وقت كانت المسيرات تتمدّد في المحافظات، ترمي أوامر الدفاع بالحظر الليلي عرض الحائط!
الوضع الإداري برمّته نتيجة الواسطة والمحسوبية والعلاقة المختلة بين مجلس النواب والحكومات أصبح كارثياً
ليس الموضوع اليوم استقالة وزير ولا توقيف مسؤول، ولا حتى إقالة حكومة، فمثل هذه الإجراءات والسياسات هي لإطفاء الحريق ليس أكثر، بل المطلوب عدم التردّد في المضي خطواتٍ واضحةً وجليةً وقويةً باتجاه إصلاح ديمقراطي، لأنّ أعراض الأزمة أصبحت متغلغلةً في مفاصل عديدة، وتحتاج جراحات عاجلة. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فلن تجد شخصاً عاقلاً يقبل بتولّي أي نوعٍ من المسؤولية في الأردن، لأنّ النتيجة ستكون شبيهةً بما حدث مع شخصيات راقية سُلّمت حقائب وزارية كانت محمّلة بالمتفجرات، فالوضع الإداري برمّته نتيجة الواسطة والمحسوبية والعلاقة المختلة بين مجلس النواب والحكومات أصبح كارثياً!
آن للذين يحذّرون من نتائج الإصلاح بحجّة الخشية من القفز في المجهول أن يستفيقوا، فلا يوجد أخطر من المجهول الحالي الذي أصبحت عليه الأمور في البلاد، ولم يعد في الإمكان السير أي خطواتٍ بهذه السيارة التي لا تحتاج إلى دفشة ولا دفشات، بل إلى عملية أفرهول كاملة حتى تستطيع إكمال الطريق!
نقص الأكسجين لم يصب مستشفى السلط وحده، بل الوضع السياسي بأسره
لا يوجد أخطر من الاستمرار بالطريقة الحالية البائسة في تشكيل الحكومات، ولا يوجد استنزاف لصورة مجلس النواب وسمعته وقيمة الانتخابات النيابية أكثر مما يحدث، ولا يوجد إضعاف للقيم المدنية والمؤسسية والأحزاب السياسية أسوأ مما نراه اليوم. وإذا كانت هذه هي مؤشرات الحالة السياسية، فإنّ علامات الصحّة والسلامة مرعبة، ونقص الأكسجين لم يصب مستشفى السلط وحده، بل الوضع السياسي بأسره.
بعث الملك، خلال الأسابيع الماضية، رسائل واضحة تدعو إلى مراجعة تشريعات العمل السياسي. وتمثّل المئوية مناسبة مهمة لانطلاق مشروع جديد لتطوير الدولة وإدارتها وتجديد أدواتها ورسم خارطة طريق لملكية دستورية حقيقية، فلا معنى للتأخير أو التأجيل أو المماطلة من الحكومة إلا إضاعة للوقت وإحجام عن تنفيذ خطة علاج ضرورية للفيروس القاتل الذي ضرب الحياة السياسية في البلاد، وأي موقفٍ آخر داخل المؤسسات الرسمية يعاند هذه التوجيهات، فهو بمثابة احتجاج أخطر بكثير مما يجري في الشارع، لأنّه يهزّ مصداقية الدولة بأسرها.