تظهر الموسيقى كتعليق على إيقاع العالم السياسي والثقافيّ، إذ تخلق تجربة "مُتخيّلة" للحياة، كأنّها تتنبأ أو تنتقد، وتسعى إلى تجاوز الشكل القائم. هي حدث مستمرّ في العالم. لا تختفي، بل تُختزل إلى ما لانهاية.
كان العالم مقسوماً إلى "أبيض" و"أسود" في الولايات المتحدة في الأربعينيات، خصوصاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وعودة الجنود إلى بلادهم، ونشاط حركة الحقوق المدنيّة التي كانت تتعرض لعنف شديد بسبب مطالبتها بالمساواة والديمقراطيّة. العالم "الجدّي" السابق كان إقصائياً، قاسياً، لكل لون ممراته وباصاته ومدارسه. لكن التسليّة ليلة السبت كانت مختلفة.
كانت "الموسيقى السوداء" تجذب كل الألوان، خصوصاً الـBebop، الذي يرقص على أنغامه "الأبيض" و"الأسود"، لكن في اليوم التالي، يجلس كل لون على مقاعد مختلفة في الباصات العامّة.
سكن مايلز ديفيس في طفولته حياً اًبيض في إيلينوي. تعرّض للتنمر والضرب، بل وطارده مرة أحدهم ببندقية لقتله. لم يمتلك حينها بندقيّة. لكن، حسب كلامه، حينما كان يخسر في المسابقات الموسيقيّة في المدرسة، قرّر التفوق على أي أبيض يعزف الترومبيت: "لو لم أمتلك هذا الحقد داخلي، لما كنت أنجزت ما أنجزت في عملي".
شكّل ديفيس نموذجاً للشاب الأسود، الأنيق، الـ"حريّف" والعاطفيّ، الذي يجسّد صورة الـCool. كان ممتعاً لأعين النساء اللاتي تعدّدت علاقاته معهن، في الوقت ذاته، كان مدركاً لأثر موسيقاه على الفضاء العام والصراع الذي تمرّ فيه الولايات المتحدة، خصوصاً تأسيسه للـ"كول جاز"؛ إذ لا مزيد من الرقص، بل تأمّل وتفكّر طويل في ما يحدث، إذ قدّم متخيلاً سياسياً جديداً لشكل العالم، والعلاقة بين الأبيض والأسود. فكما المجتمع يسعى إلى الانفتاح واحتواء الجميع، جاء الكول جاز، باتساع "طبقاته" واسترخائه، كبديل للتسلية ليلة السبت، خالقاً مساحة للحوار، بين ألحان الموسيقى الكلاسيكيّة، وتلك الشعبية والأفريقية.
ديفيس جزء من العالم، ليس فقط مجرّد مراقب أو منصت، موسيقاه كأيّ موسيقى، تتأثر بالحراك السياسيّ، ووعيه بذلك يتضح في ما يسمّى "حادثة بيردلاند"، حيث تعرض للضرب عام 1959 من قبل شرطي عنصري في نيويورك، لأنه كان يوصل فتاة بيضاء إلى سيارة تاكسي، بعد انتهاء واحدة من حفلاته.
الحادثة التي أًصبحت فضيحة وطنيّة أُسقطت دعواها أمام القضاء، وتُركنا أمام صورة ديفيس بدمائه، لنراه بعدها أشبه بناشط يسعى إلى خلق بديل موسيقي لسياسات حركة الحقوق المدنيّة، مُتّجهاً نحو قطيعة مع "الجاز القديم" خصوصاً، بعد تسجيل "في الحفلة: مباشر في صالة الفيلهارموني" بداية السبعينيات، بوصفه علامة فاصلة بين "القديم" و"الجديد"، وخطاباً يعكس تغيرات العالم، حسب تعبير الموسيقي متوم، الذي كان واحداً من العازفين مع ديفيس.
قطيعة ديفيس مع المُسلّي وسريع الإيقاع، تتجلى في ألبومه "كايند أوف بلو" (شيء من الكآبة)، المسجّل عام 1959، ذي الإيقاع الأبطأ، والنوتات الأطول، وتبرز دلالاته السياسيّة بسبب توقيته، إذ جاء بعدما رفضت روزا باركس الانصياع لأوامر سائق الباص، وجلست في قسم "البيض"، وبعدما قامت ثانويّة روك سنترل بإلغاء الفصل بين الطلاب.
نال الألبوم شهرة واسعة، وكأنه موقف ديفيس مما يحدث، مخاطباً دواخل ومتخيلات الأميركيين لنقلهم ولو للحظات نحو "حياة أفضل" وتجربة افتراضيّة أشد مساواة، فالموسيقى ليست تعليقاً على التاريخ، بل تجربة متخيلة ضمنه.
لا يمكن تفسير الموسيقى، مهما كان السياق التاريخيّ دقيقاً، لكن بالإمكان الإشارة إلى تجارب الناس والمتلقين، تلك الخبرات المشتركة، والعلنيّة، والجامعة لمختلف الألوان، إذ نال الجاز شرعيته كشكل موسيقي أنتجه السود في الولايات المتحدة، خلال تلك الفترة، لا بوصفه محرضاً على الرقص تتحرك على إيقاعاته أجساد البيض والسود، بل موسيقى يعزفها البيض، من ضمنهم بيل إيفانز، وعازف البيانو الذي شارك مع ديفيس في ألبومه "كايند أوف بلو".
المثير للاهتمام أنه لا توجد نبرة احتجاج في التجربة المتخيلة التي يقدمها "كايند أوف بلو"، بل استرخاء، وبطء، إنصات واستماع. هنا يأتي الألبوم لا بوصفه انعكاساً للصراع العنيف الذي خاضه السود، بل كتماهٍ مع الجانب المسالم للاحتجاج الذي تمارسه حركة الحقوق المدنيّة، كالجلوس في الباصات في الأماكن غير المخصصة، والمقاطعة. تلك التقنيات التي يطالب فيها الفرد بحقوقه وهو مسترخ، لا "يقاتل"، وكأن الموسيقى تُعزفُ برأس شاب أسود وهو يجلس في الباص "مُسالماً" تحت تهديد الضرب والتعنيف.