من المرجح أن مايلز ديفيس (1926 - 1991)، قد ضحك بشدة لدى سماعه اللقب المبتذل الذي أطلقه عليه البعض في عصره، ألا وهو "أمير الظلام"؛ فرغم سلوكه المختلف، وثيابه الغريبة، ونظارته الشمسية السوداء، لم يكن ديفيس إلا رجلًا مبهجًا، ذكيًا، كثير السخرية والاستهزاء بكل ما حوله.
شخصيته التي تميل إلى العبث والهزل، تجعل من مشاهدة مقابلاته القليلة أمرًا مسليًا إلى أبعد الحدود، فغالبًا ما كان يظهر متشدقًا باللبان، غير مبالٍ بالأحكام التي قد يطلقها الآخرون، متحدثًا عن حياته السابقة في مجال العمل بالجنس، وعن كرهه الشديد للعنصرية، وهوسه بالملاكمة.. عن كل شيء باختصار، باستثناء الموسيقى، فذلك مجال فضل ديفيس الفعل فيه بدلًا من القول.
من المؤكد أنه لم يكن معجبًا بالنقاشات الثقافية النخبوية، كما أنه لم يكن من ذلك النوع المتفاخر من الفنانين، فما بدا له على أنه جلسة تسجيل عادية في الاستديو، كان في الحقيقة حدثًا جللًا، يغيّر من مجرى تاريخ موسيقى الجاز.
كان مايلز، وكم كره أن يُلقب بشيء غير اسمه، عازف ترومبيت، مؤلفًا موسيقيًا، قائد فرقة، ورسامًا، وواحدًا من أهم موسيقيي القرن العشرين، وفقًا لمجلة الرولينغ ستون؛ إذ لعب خلال حياته المهنية التي امتدت لأكثر من خمسين عامًا دورًا رئيسيًا في رسم تاريخ موسيقى الجاز المعاصر، فطور نمط عزف خاصًا به، وظهر كرائد للعديد من أنماط الجاز، بما في ذلك موسيقى الجاز الهادئ والهارد بوب والـ مودال الجاز، ومزيج الروك جاز، والفانك جاز.
ولد ديفيس في إلينوي، لعائلة من الطبقة الوسطى. والده كان طبيبًا و"أغنى رجل أسود" في إلينوي. وفي حين أرادت والدته أن يتعلم البيانو أو الكمان، قدم له والده ترومبيت في عيد مولده الثالث عشر.
تلقى ديفيس دروسًا متعددة في العزف، كان معظمها على يد عازفين مرموقين، أمثال كلاك تيري. لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ مسيرته كعازف محترف، ولربما وقف الحظ إلى جانبه عندما أتيحت له الفرصة بأن يحل محل أحد عازفي فرقة بيلي إيكستين، عندما غيبه المرض في سانت لويس.
انطلق دايفيز بعدها إلى نيويورك، والتحق بكلية جوليارد الكلاسيكية لمدة عام واحد، إلا أنه سرعان ما تخلى عن الدراسة الأكاديمية ليتجه نحو الممارسة العملية لحرفته. على الرغم من قراره الجريء هذا، لم يكن ديفيس يشجع الآخرين على سلك ذات الطريق؛ فهو يعتبر أن أسطورة العازف الأسود الخارق بالفطرة، ليست إلا جزءًا من الصورة النمطية التي خلقها "بيض البشرة" عن "السود". كما عندما يرى أحدهم شخصًا أسود يقود سيارة فيراري فيفترض أنها مسروقة. "هذا ما يقوله البيض لسود البشرة"، يقول ديفيس في مقابلة له: "يقولون لك إنك لست بحاجة إلى الدراسة، لديك كل ما يتطلبه الأمر. هذا غير صحيح، عليك أن تتعلم العزف، وأن تدخل الجامعة".
بدأ مايلز حياته بعزف موسيقى الـ beebop، إذ كان عضوًا في فرقة تشارلي باركر، الذي يعد من أهم مؤدي هذا النمط والأول ظهورًا من أنماط الجاز المعاصر. ففي حين استندت موسيقى الجاز سابقًا إلى السلم الدياتوني الأوروبي، كانت موسيقى البيبوب تقوم على أساس السلم الكروماتيكي، والتغييرات السريعة في المقامات والكوردات (مجموعة النغمات المتآلفة والمتزامنة)، والإيقاع السريع المعقد عبر الارتجال.
إلا أن ديفيس، المعروف بملله السريع، والملعون "بالحاجة الملحة إلى التغيير"، على حد وصفه، رأى في بنية البيبوب تثبيطًا لانفتاح الجاز، وتقييدًا له بمجموعة هائلة من الكوردات المُحدّدة وظيفتها سلفًا، لذا اتجه نحو بنية أكثر انفتاحًا، تمثلت في نمط موسيقي معروف باسم الجاز الهادئ cool jazz، وهو على عكس البيبوب، يتميز بالإيقاع الهادئ، والمحتوى العاطفي الأقل حدة، والخالي من تقنية الترجيفة (الفيبراتو) التي هيمنت على عزف باركر.
بدأ بالعمل على مشروعه في عام 1948، فتعاون مع منسق الألحان الكندي جيل إيفانز، ومع عازفين متعددين، منهم جون لويس وجيري موليغان، فعملوا على سلسلة تسجيلات تساعية (ألحان تؤلف لتسعة أصوات أو عازفين)، لم تصدر على هيئة ألبوم حتى عام 1957، تحت عنوان Birth of the Cool. وهو الإصدار الذي سيؤثر على عمل وأسلوب العديد من الموسيقيين الشهيرين، أمثال شيت بيكر وشورتي روجرز.
في عام 1949، سافر ديفيس مع المؤلف تاد داميرون إلى باريس، وهناك تعرف إلى جان بول سارتر وبيكاسو، ووقع في غرام الممثلة الفرنسية جولييت غريكو، من دون أن يستطيع أي منهما التحدث بلغة الآخر. إلا أن ديفيس سيعود من هذه الرحلة ليدخل بمرحلة إدمان حاد على الهيرويين، ما يدفعه إلى العودة إلى منزل والديه في عام 1953.
لن يمضي أكثر من عام واحد حتى يتخلص ديفيس من إدمانه ويعود للتركيز على الموسيقى مجددًا؛ إذ بدأ العمل إلى جانب صديقه جورج راسل على إثبات إمكانية اعتماد موسيقى الجاز على مقامات؛ كالليدي والفريجي والأيولي وغيرها، بدلًا من الكوردات المتغيرة بشكل مستمر كما في حالة موسيقى البيبوب.
بهذه الطريقة، يستطيع العازف أن يمتلك الحرية الكاملة للعزف كما يريد، وربما من دون أن يستخدم أكثر من كوردين اثنين، ما دام قد حدد المقام الذي ينطلق منه ويعود إليه. إن مجموعة القطع التي تشكل ألبوم ديفيس، Kind of blue، تعد تجريبًا عمليًا لتلك القراءة الجديدة لموسيقى الجاز.
نجحت التجربة بالطبع، إذ أصبح هذا الألبوم من أكثر ألبومات الجاز مبيعًا في العالم، وتم اعتبار عام 1959، وهو العام الذي أُطلق فيه العمل، السنة الذهبية لموسيقى الجاز. دفعت ممارسات ديفيس الموسيقى الأميركية إلى مستوى آخر تمامًا، وفتحت الأبواب الواسعة أمام الجاز الذي تحول الآن إلى "طائفة" ينتمي إليها الملايين.
لم يتطلب تسجيل التحفة التي غيرت عالم الموسيقى إلى الأبد، وأنجبت عازفين معجِزين أمثال جون كولترين، أكثر من سبع ساعات متتالية في الاستديو. لكن أكثر ما ميّز هذا الألبوم هو عزف مايلز نفسه، لم يشهد العالم اندماجًا بين موسيقي وآلته كذلك الذي كان بين ديفيس والترومبيت خاصته: مزيج غريب ومثير من الغموض والرقة والأداء المحترف المشحون بعاطفة مشبوبة.
بعد تلك المرحلة، كوّن ديفيس خماسيًا موسيقيًا، يعد من أكثر فرق الجاز تقدمية وتأثيرًا خلال ستينيات القرن العشرين، وقد أنجز مع فرقته تلك ألبومات متعددة، مثل "مايلز يضحك" (1967)، و"نفرتيتي" (1968)، وغيرها.
في هذا العام بالذات، بدأ ديفيس بإدخال تأثيرات الروك مع موسيقى الجاز خاصته، فمن المعروف أنه كان من أكثر الموسيقيين انفتاحًا على الأنواع الجديدة من الموسيقى. آمن مايلز بأن الموسيقى في تغير مستمر، وذلك بسبب تطورات العصر والتكنولوجيا المتاحة لصناعتها. لكن الأهم من ذلك، هو تغير أصوات العالم الخارجي، إذ يقول: "كانت السيارات فولاذية، لكنها أصبحت اليوم بلاستيكية، لذا عندما تسمع حادث سير اليوم يبدو صوته مختلفا عما سبق، فلن تسمع اصطدام المعادن كما في الأربعينيات والخمسينيات".
إذًا، على الموسيقيين أن يلتقطوا تلك الأصوات المتغيرة ويحولوها إلى نوع من الفن. هذا ما فعله مايلز عندما أنجز في عام 1969 ألبوم Bitches Brew. استخدم في هذا العمل الأورغ والغيتار الكهربائي، انسجامًا مع توجهه الموسيقي الجديد الذي يسعى عبره إلى دمج موسيقى الجاز مع الموسيقى الرائجة من روك وفانك، متأثرًا بتجربة جيمي هندريكس. أسفر ذلك المشروع الجديد عن أهم ألبومين في مسيرة ديفيس المهنية، وهما "فيلز دي كليمنجارو"، و"مايلز في السماء".
قاد مايلز حركة الجاز منذ منتصف الأربعينيات حتى رحيله في عام 1991. كان موسيقيًا متنوعًا لا يمكن التنبؤ بحركته التالية، فدخل الأماكن المجهولة وخرج منها بمزيد من الأسئلة.
إن انفتاحه على الأنواع الجديدة من الموسيقى جعل منه رجل الغد، المعتمد على التجريب، دونما أجندة أو بيانات جاهزة. عمل ديفيس بجهد، فترك خلفه إرثًا ضخمًا يثير في الذهن السؤال: كيف فعل رجل كل هذا بمفرده؟