لعلّ مايلز ديفيس يمثّل خُلاصة الروح الأميركية في نزوعها للابتكار. صعد كموسيقي في مرحلة جامحة ومضطربة في الولايات المتحدة؛ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لم تكن مصادفة أن تمتد مسيرته حتى نهاية الحرب الباردة، إذ كان صورةً تختزل حقبةً كاملة.
كادت موسيقى الجاز أن تبلغ آخر مراحلها كموسيقى كلاسيكية أميركية، لكن ديفيس نقلها لتكون مواكبة للحداثة الموسيقية. ومع أن النقاد التقليديين نظروا إلى أعماله المتأخرة على أنّها أقرب إلى الروك منها إلى الجاز، إلّا أنه راهن على نقل الجاز من الاستعراض، لتكون مجرد موسيقى في روح قلقة لا تبرح أن تتمرّد.
برز ديفيس كعازف ترومبيت فذ تسابقت عليه أشهر فرق الجاز، لكنه بحث عن صوته الخاص وكوّن فريقه. بلغت موسيقى الجاز مع لويس أرمسترونغ التوليفات الهارمونية الأكثر تعقيداً، لكن الابتكار المقلق هو أحد ملامح عبقرية ديفيس؛ فأضفى على موسيقى الجاز تركيبات كلاسيكية، تميل أكثر في تلويناته إلى المقاييس في السلم الموسيقي، وهي سمة الموسيقى الكلاسيكية، لينتج عن ذلك تلوينات لحنية غير مسبوقة مقارنة بأساليب الجاز.
فن الرتق أو المزج بين الأساليب الموسيقية، كان فضاء ديفيس المفضّل. يحتوي الجاز على تراكيب هارمونية أبسط من الموسيقى الكلاسيكية، لكنها تمتاز بمصاحبة خطوط لحنية متحرّرة تتيح الارتجال. خلق صاحب "كايند أوف بلو" ملامح ارتجالية أكثر بساطة، لكنّها أتاحت أصواتاً مغايرة عن السائد آنذاك.
نعود إلى مرحلته الكلاسيكية. نتج عن تلك المرحلة ما أصبح يُعرف بالجاز الشكلي، والتي برزت ملامح اعتمادها على الموسيقى الكلاسيكية في عمله "اسكتشات إسبانية" عام 1960. وسبق له أن وضع بصمته غير المألوفة على النغمات الزرقاء في السلم الوتري، باستخدام نصف النغمة، وتحديداً في قطعة All Blues؛ إذ استخدم النغمة الثالثة (ري بيمول)، وهو أمر لم يكن مألوفاً حينها في السلم الموسيقي للجاز. تعتبر النغمات الزرقاء عنصراً أساسياً في سلم الجاز الموسيقي، وتتكون من الدرجات الثالثة والخامسة والسابعة.
ما جعل ديفيس أحد أبرز وجوه الروح الابتكارية الأميركية، ليس فقط فتوحاته الموسيقية، بل أيضاً التوزيع الوظيفي للآلات. وهذا ما يجعله أكثر شبهاً بـ هنري فورد، الذي غير شكل الصناعة في العالم. عدا أن مايلز أزاح المكننة في نسق إنساني ملهم تبثه الآلات، وتتناوب عليه الأصوات، فتجلت في أعماله روح الجوقة.
انبعثت موسيقى الجاز من جذور أفروأميركية، وأصبحت أول شكل كلاسيكي لموسيقى أميركية خالصة، بدأت بالانتشار في تسعينيات القرن التاسع عشر، وراجت في القرن العشرين، لتحفر أثرها العميق في الثقافة الأميركية. مع هذا، ظل بعض البيض ينظرون إليها بتعالٍ باعتبارها موسيقى غير رفيعة، أو شعبية، في وقت كانت تزحف صيغة الجاز لتكون التعبير عن العالم البرجوازي الأميركي.
في الخمسينيات وأول الستينيات، كانت الولايات المتحدة تحيا صداماً حول بقايا نظرة الاستعباد للمجتمعات ذات الجذور الأفريقية. عدا أن الموسيقى الأميركية الأصيلة ولدت في أوساط الطبقات المهمشة. وعندما أنتج البيض أسلوبهم الموسيقي الأكثر شعبية؛ الروك، أحيوها من أصوت البلوز والريجيتم.
كان ديفيس في استعارته أصوات الروك ضمن الجاز، يعيدها إلى صدر الجاز الأمومي الذي تحيز البعض ضده. كانت موسيقى الجاز سيرة للتحرر. وفي عنفوان ديفيس، كان صوت الألم الأخير ينفجر ضد ما تبقى من العنصرية.
دفع ديفيس الجاز ليكوّن موسيقى بحتة، بعيدة عن الاستعراض، مستبعداً الزخارف في تلويناته اللحنية، بتحطيمه الحدود الراسخة بين ما هو فن رفيع وشعبي. في أواخر الستينيات، استعار ديفيس موسيقى الروك والفانك، وطفت الملامح عبر توظيف الآلات الكهربائية، بدءاً بالبيانو الكهربائي في Miles In The Sky عام 1968. آخر قاعدة كان الجاز لا يزال متمسكاً بها؛ الإيقاعات، ولم تنجُ من زلزال ديفيس، في توظيفه إيقاعات الروك.
أخرج ديفيس موسيقى الجاز من صومعتها، حتى لا تكون مجرد محجّ للكلاسيكيين، وفي كل ما قام به كان متجاوزاً للنقد. هكذا، في عام 1969، قدّم واحداً من أهم أعماله؛ In a Silent Way لفرقة تساعية، ظهر فيه الأورغ والغيتار الكهربائي. أما الذين بقوا في الصومعة، فنزعوا عن أعماله المتأخرة صفة الجاز، واعتبروها روك. هل هذا ما أكده مايلز نفسه، حين قال إنه يمتلك أفضل فرقة روك؟
لم تكن مقولته هذه تخلياً عن الجاز، بقدر تأكيده على خروج تلك الأساليب من معطف الجاز. أراد القول إنه لا يعمل فقط مع موسيقيي جاز بارعين، بل أيضاً موسيقيي روك يضاهون أفضل فرقها. كانت موسيقى الروك روح العالم في ذروة الحرب الباردة. وتماشت روح ديفيس القلقة مع متغيرات العصر، ليظل مواكباً وعصرياً. حتى أن نكوصه مدمناً على المخدرات، كان مرآة عالمه الباعث للشكوك.
ومع مظاهر الروك، كان الجاز يستفيق كلاعب أساسي لا يجسد فقط أبوّته، إنما في كونه يافعاً وموازياً لعناصر الحداثة. لعلها محاكاة حوارية، أو اندماج يتحدّى التفاوت بين عناصر مختلفة في وحدة عضوية. بهذا، نتج عن التئام الجاز بالروك ما سُمي بـ الجاز البديل.
لم يتوقف ديفيس عند هذا الحد، مؤكداً تصميمه على ابتكار موسيقى جاز مختلفة ومعاصرة، ونتج عنه جاز مدمج، لم يكتف فقط بالآلات الكهربائية، بل خرق نمط التسجيلات القديمة، بحثاً عما يُعرف بتراكيب الأصوات المعدلة، من خلال التقاط شظايا أصوات متعددة لا تُعزف في الاستوديو، وإنما تتم دبلجتها فيه. كان أول ظهور لدوبلاج المؤثرات الصوتية في ألبومه Bitches Brew الذي صدر عام 1970.
في واحد من أعماله المتأخرة، Aura، الصادر عام 1989، تظهر تلك المؤثرات؛ فضربات الغيتار الكهربائي تحمل سمات الروك، لكن هناك أيضاً ملامح موسيقى البوب التي عصفت بالثمانينيات. ظلت ملامح الجاز تتخذ صوتاً موازياً، ربما ليست موسيقى جاز، أو جاز بديل، لكنها موسيقى عصرية كرّس فيها ديفيس نضجه الموسيقي بتلك التوليفات والهارمونيات، والمؤثرات الصوتية، وأكد أيضاً أنه لم يتخل عن روحه الابتكارية؛ فمختبر الجاز كان بالنسبة له تصرّفاً بالأصوات الأكثر فناً وإنسانية؛ بصرف النظر عن ماهيتها.
بين تنويعات مايلز ديفيس، يبقى عمله الأبرز "كايند أوف بلو"، كواحد من كلاسيكيات القرن العشرين الموسيقية الأكثر جمالاً. فكما تحررت المجتمعات المقموعة في أميركا، كانت هناك موسيقى مايلز، بكل أساليبها وتنويعاتها، مرآة لثقافة أميركية تتطلع دائماً إلى الابتكار، توجت ملحمة التحرر، عبر نبذ مقولة إن الجاز موسيقى المهمشين والفقراء فقط، إنما فن رفيع بمقدوره أن يكون شعبياً.