عودة إيهود باراك: الخطر الوجودي هو "الدولة الواحدة"

15 مايو 2017
باراك: إسرائيل الدولة الأقوى في المنطقة (مناحيم كهانا/فرانس برس)
+ الخط -

يشتهر رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، الجنرال إيهود باراك، بكونه أكثر من حاز في إسرائيل، أثناء خدمته العسكرية، على أوسمة التقدير، وأنه ممن سجلت عنده أعلى نسبة ذكاء في اختبارات الـ"أي كيو" (حاصل الذكاء)، وأنه كما قال عن نفسه، في دعايته الانتخابية في العام 2001، "باراك ليس صاحبك ولكنه قائد". عدا عن إقرار كثر في إسرائيل بأن الرجل يتمتع بعقل تحليلي، خصوصاً في القضايا الاستراتيجية والأمنية، ولا تهمه العلاقات الإنسانية أو الاجتماعية، ويجد صعوبة في "نسج العلاقات الشعبية، أو العفوية مع الناس".

لكن باراك يشتهر أيضاً، بما لا يملكه، أو ما لم يعتد الإسرائيليون على تلقيه منه، وهو الكتابة والنشر، والتعليق على مجريات الأمور، أو الخوض في مناقشات فكرية ونظرية وسياسية، سواء مع اليمين الإسرائيلي ككل، أو مع معسكر اليسار الذي انتمى إليه. وقد ابتعد إيهود باراك، منذ آخر ولاية له في وزارة الأمن الإسرائيلية في 2013، عن الحياة السياسية، وادعى باستمرار أنه لن يعود إليها، واتجه إلى قطاع الأعمال. ومع ذلك شارك في مؤتمر هرتسليا السنوي العام الماضي، ودعا إلى تغيير الحكومة الحالية، ولو من خلال احتجاج شعبي. وقد ذهب مراقبون إلى أن باراك يفكر بالعودة إلى السياسة، على الرغم من غضب حزب العمل عليه بعد أن ترك الحزب وانشق عنه. وذكرت الصحف الإسرائيلية أخيراً نبأ تأسيس جمعية لترشيح باراك، أو فحص سبل عودته للحياة السياسية، ولم ينف باراك أي احتمال. كان لا بد من هذه المقدمة لفهم إقدام باراك، الذي لم ينشر أكثر من 4 مقالات لغاية الآن، حسبما يتضح من البحث على الشبكة والصحف، أو محاولة فهم أسباب إقدامه، في عدد الجمعة الماضي من "هآرتس"، وتحديداً ملحق الكتب، على تخصيص قراءة نقدية بأكثر من 4000 كلمة لكتاب الكاتب الإسرائيلي اليميني، ميخا غودمان، "مصيدة 1967"، حول آثار وتداعيات حرب يونيو/ حزيران واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وماذا فعل هذا الاحتلال بإسرائيل، وبالأساس بمعسكريها السياسيين: اليسار واليمين.

ومن دون الخوض في تفاصيل كثيرة من التي يوردها باراك، فإنه يمكن القول إن قراءته النقدية للكتاب المذكور، هي في واقع الحال طرحه السياسي والأمني الذي يعرضه على الإسرائيليين، ونوع من الرد الفكري، أو ربما الترويجي لمواقف ما يسمى بمعسكر اليسار الإسرائيلي وتصوره لحل الدولتين، لتفادي ما يعتبره باراك الخطر الوجودي الوحيد على إسرائيل في حال لم يتم اعتماد حل الدولتين، وهو "حل الدولة الواحدة على أساس دولة جميع مواطنيها". وهي إضافة قصد باراك إضافتها لعبارة الدولة الواحدة، ولم يأت ذكرها عبثاً أو عفوياً. هذا هو أهم استنتاج يطرحه باراك، وعليه يبني تصوراته الأمنية حول كيف يجب أن يبدو الحل، وما هي حقيقة الدولة الفلسطينية التي يقترحها، وما حدودها، وحجم قوتها، والقيود التي ستفرض عليها، وفي مقدمتها "سيطرة أمنية كاملة على كل مفاتيحها؟".

يستهل باراك قراءته النقدية بالاعتراض على الاستنتاج والتشخيص الذي يضعه غودمان، بأن حرب 1967، والهزة التي مرت بها إسرائيل منذ ذلك الوقت أفضت إلى تبلور وترسيخ أيديولوجيات في اليسار واليمين، يمكن وصفها بأنها صلبة ومتضادة، وتحولت إلى جزء لا يتجزأ من هوية كل واحد من الطرفين، ولا تمكِّن من إطلاق نقاش مفتوح وموضوعي. وبالتالي يقترح غودمان، بحسب باراك، تحويل المشكلة من "وجودية" إلى مزمنة، حتى يتسنى الالتفاف على الحاجة لتسوية أيديولوجية تمنع الصدام بين الهويات وتمكّن من "ضمان عافية الخطاب الإسرائيلي". بعد ذلك يدحض باراك ويفند محاولات غودمان المساواة الكاملة بين تحذيرات اليسار، من أن عدم الوصول إلى حل الدولتين سيفضي إلى حرب أهلية، وضياع الأغلبية والهوية اليهودية، ووضع حد للمشروع الصهيوني بإقامة دولة يهودية ديمقراطية (وهي مخاطر يعتبرها باراك حقيقية)، وبين مقولة أن اليمين الجديد لم يعد يدعي أن مواصلة البقاء في الأراضي المحتلة سيأتي لإسرائيل بالخلاص، بل يقول اليوم إن الانسحاب منها سيجلب على إسرائيل كارثة. ويصل باراك إلى القول إن الهدف من وراء هذه المساواة بين "التحذيرين" والموقفين، هو الوصول إلى الاستنتاج الذي يرغب غودمان واليمين في إسرائيل بتكريسه، وهو أنه بما أن الطرفين صادقان، فنحن جميعا إذاً في مصيدة، وبالتالي فإن الحل هو بالإبقاء على الوضع القائم: "الهروب من الحل إلى تحويل المشكلة إلى مزمنة".

عملياً هذا هو أهم ما يذهب إليه باراك في تحليله للنص، وتحديد أن اليمين الإسرائيلي، بما فيه أيضاً الديني والمسيحياني، بدأ يبتعد عن المبررات الدينية بشأن أرض إسرائيل والحق التاريخي عليها، والاستعاضة عنها بمبررات أمنية وعسكرية يقبلها الجمهور الإسرائيلي العام، باعتبار أنها تدغدغ هواجسه الأمنية. يلتقط باراك هذه النقطة ليمضي، بعد الإشارة إلى عدم خبرة الكاتب في قضايا الأمن والجيش، إلى القول إن محاولة المساواة بين تهديد وجودي مستقبلي أكيد (خطر الدولة الواحدة) وبين ما يفهم بأنه تهديدات وأخطار عسكرية، لا ينبغي التقليل من حدة أي منها، وتملك إسرائيل ردوداً عليها، هي مساواة أو مقاربة مرفوضة وغير صحيحة وتنطوي على تضليل. فالكارثة التي يحذر منها اليسار هي كارثة "الدولة الواحدة التي ستفضي إلى أغلبية عربية وحرب أهلية متواصلة، أو في المقابل إلى نظام أبرتهايد ومهدد بشكل دائم بالانهيار". في المقابل، يقول بكذب ادعاءات اليمين من أن الانفصال عن الفلسطينيين يشكل خطراً وجودياً. ويقول إن هذا الادعاء، وما يرافقه من أنه لن يكون بالإمكان الدفاع عن أمن إسرائيل، ليس صحيحاً، "فغالبية رجال الأمن والمؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، ممن سبقوني في رئاسة الأركان ووزارة الأمن، يرون عكس ذلك". وهنا يصل باراك لتصور المؤسسة الأمنية في إسرائيل، وهو عملياً التصور الذي حمله اليسار الإسرائيلي العمالي في العقود الأخيرة، بأن أي حل مقبل ينبغي أن يقوم على الانفصال عن الفلسطينيين في الضفة الغربية (وهو يستثني طبعاً القدس المحتلة من المعادلة)، مع ضمان سيطرة أمنية على كافة الأراضي لكل مدى تصله العين كجزء من اتفاق مرحلي، ويرون "التسوية الإقليمية" و"حل الدولتين لشعبين" جزءاً من كل تسوية دائمة، عندما يتم التوصل إليها. وفي حال لم ندرك ذلك ولم نتجه نحو تسوية إقليمية، فإننا سنواجه خطراً، ليس فقط على طابع الدولة ومكانتها، وإنما أيضاً وقبل كل شيء على أمنها، بما في ذلك في مجال محاربة الإرهاب.

ويرفض باراك ادعاء اليمين الإسرائيلي بأن أمن إسرائيل لا يتحقق إلا ببقائها ووجود قواتها أو مستوطناتها على رؤوس قمم جبال الضفة الغربية، من جنين شمالاً وحتى الخليل جنوباً، وعلى السفوح الشرقية لهذه الجبال التي تعرف في القاموس الإسرائيلي بتعبير "ظهر الجبل". ويشير، في هذا السياق، إلى أن إسرائيل "هي الدولة الأقوى في المنطقة، عسكرياً واستراتيجياً واقتصادياً، وإذا استطعنا التصرف بحكمة مع الولايات المتحدة، تكون إسرائيل الأقوى أيضاً في علاقاتها الدبلوماسية ومع الدول العظمى. وعليه لا ينبغي البقاء في شرنقة الخوف والقلق الدائمين". ويعتبر باراك أن الحدود الضيقة لإسرائيل، في حدود ما قبل 67، هي حدود يمكن الدفاع عنها، خلافاً لادعاءات اليمين، بدليل أن إسرائيل احتلت، وهي في تلك الحدود، أراضٍ من ثلاث دول عربية وتغلبت عليها. في المقابل، يرى باراك أن خطر الديمغرافيا هو الأكبر، لأننا نقترب فعلاً من ساعة "تحول الفلسطينيين إلى تغيير أجندتهم السياسية ومطالبهم وانتقالهم إلى المطالبة بدولة واحدة"، وفق نسخة "دولة جميع مواطنيها". ويضيف أن الواقع الذي يطالب فيه المتطرفون من كل طرف بإقامة الدولة الواحدة هو الذي يحول رؤيا "الدولة الواحدة" إلى "الخطر الوجودي الحقيقي على دولة إسرائيل في جيلنا، وليس بعد أجيال، إنها مسألة سنوات".

ويخلص باراك إلى القول "أمامنا مشهد وواقع إقليمي لمرة واحدة، مصالح مشتركة بيننا وبين السعودية، ودول الخليج ومصر والأردن. انهيار دول في الشرق الأوسط جلب معه فرصاً أكثر من التهديدات، بل إن الخطر الإيراني قد تأجل، وإن لم يكن قد اختفى. علينا العمل اليوم وبسرعة من أجل عقد مؤتمر إقليمي يتمحور حول محاربة الإرهاب، ووقف أطماع إيران في بسط هيمنتها وبحيازة قوة نووية، والانخراط في مشاريع (اقتصادية) إقليمية وفي الموضوع الفلسطيني. إنني أنصح في ما يخص الفلسطينيين، بأن نتبنى على الفور خطة عمل (القادة من أجل الأمن) التي عرضوها على الجمهور كخطة مرحلية (وتقضي بانفصال إسرائيلي من جانب واحد)، رداً على واقع لا يمكن فيه اليوم التوصل إلى حل دائم. هذا هو الرد الصحيح طالما لم تنضج ظروف الحل لدى الطرف الآخر، وأن نحصن مقابل العالم، علاقاتنا مع الولايات المتحدة، مع الإدارة الأميركية والشعب الأميركي، وأهم من كل ذلك مع الشعب اليهودي في الشتات، خصوصاً الجيل الشاب. الحل هو بجواب صهيوني، يتمثل بالعمل وليس بنقاش تلمودي، أو نقاش بين أنفسنا ومع أنفسنا، لأن مثل هذا النقاش لن يفيد في شيء".

المساهمون