ذات يوم أرشدني معلّم إلى طريق مختلف، صعب وطويل، ولكنه يستحق أن يُسلَك. التقيتُ بكمال بُلّاطه خلال مقابلة لي مع لجنة محكّمي مسابقة فنية في فلسطين قبل عشرين سنة. عنوان عملي الذي دخلت به المسابقة كان "هُوية". وحين استغربَت لجنة المحكّمين من أشكال صوري الفوتوغرافية التي قدّمتها، قلتُ: "هذه هي الطريقة التي أرى بها القدس".
واستفزّني كمال حين قال: "أنت تتكلّم عن القدس طيلة الوقت، ولكنني لا أراها في أي مكان من أمكنة عملك، أين هي؟". فأجبت محتدّاً: "هل أنا بحاجة لالتقاط صور فوتوغرافية للقدس لأعالج موضوعها؟ هل أحتاج حقاً إلى تصوير قبّة الصخرة أو بوّابات المدينة لأُظهر للمشاهد أنني أشير إلى القدس؟ القدس مجرّد موضوع إحساس وإدراك".
أحبّ كمال جوابي وهنّأني. في تلك المسابقة كسبتُ كمال، وشعرتُ أنَّ هذه هي الجائزة الأولى. وغالباً ما كان يُوجَه إليّ سؤالٌ خلال اللقاءات الصحافية: مَن مِن الفنّانين يلهمك؟ وكنت لسنوات عديدة أجيب بالقول: كمال بُلّاطه.
إنه يشعّ نوراً، حتى وإن أحسّ بعض الناس في إشراقه تهديداً. أنا أرى فيه بدلاً من ذلك دعوة. لم تلتمع بيننا الشرارة الأولى، فقط لأنني رأيتُ كتابه الفني "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة"، بل لأنَّ كلماته شكّلت مصدر إلهام لي. في أذنيَّ ظلّت ترنّ لسنوات، ومع كل صدى كانت تضيء معنى جديداً في أعماقي. استجوبتني كلماته، دفعتني لأستكشف أقصى ما لديّ من قدرات. قارنني بالنسّاك الذين انتقلوا إلى الصحراء ليعيشوا في عزلة، بل وأهداني كتاباً عنهم يحمل هذه الجملة بتوقيعه: "إلى ستيف؛ ارحَل إلى المجهول".
حين التقيتُ بكمال، عرف حكايتي من دون أن أخبره. عشتُ في منفىً ذهني في القدس. أما هو فعاش في منفىً واقعيّ، وآلمه أن يراني أعاني، وأنا أعيش في مدينة ميلادنا، القدس، مدينة يُحرم من حقّه في العودة إليها. أصبحنا أصدقاء في منفى. في البداية كانت صلة بعضنا ببعض ميثاق تضامن، تطوّر إلى إرشاد، وشيئاً فشيئاً أصبح عائلياً، بلا قيد.
قمتُ مرّةً، أنا و"فرانشسكا"، بزيارة كمال وزوجته "للي" في بيتهما في الجنوب الفرنسي. وفي الطريق إليهما، وأنا أقود السيارة في طرقات "مونتو" المتعرّجة، قلتُ لفرانشسكا متنهّداً كم أنني حزين من أجلهما، أن يعيشا في بلدة نائية، بعيداً عن المدن الكبرى، وحدهما في منفى. وارتقينا بسيارتنا صاعدَين منتظرين أن نرى أيديهما تلوّح لنا.
دخلنا بيتهما، ووجدنا أنفسنا في حجرة الجلوس. حجرة بسيطة، ولكنها أكثر من هذا، كانت أقرب إلى صومعة نسّاكٍ، مكاناً للإلهام والتأمُّل والاستبطان. وحين فتحا النوافذ، وجدنا أنفسنا أمام مشهد بحر لا نهائي تتراءى فيه سماء زرقاء صافية، كما لو أن رساماً تخيّله.
كان بيت كمال في منتصف خاصرة الجبل، مطلاً على كل البيوت من حوله تقريباً. شرفته أشبه باستطالة لسطحنا في البلدة القديمة؛ منصّة، وسيلة نقل إلى عوالم غير مرئية. ربما بدا مشهد البحر، بالنسبة إلى كمال، شبيهاً بذاك الذي لبحر حيفا أو بيروت، والأشجار مثل تلك التي في فلسطين، صامدة قابلة للتكيف. ولا بد أن للهواء رائحة هواء يافا العابق بعطر البرتقال، والبيوت المبنية بحجارة ذهبية تذكّر بسهولة بتلك التي في القدس.
لم يكن كمال في منفى. لقد وجد وطناً، فضاءً فكرياً، منحه القدرة على العيش في كل فلسطين، بحدود تمتدّ إلى ما لا نهاية. وتولاني شعورٌ بالرثاء لحالي. وعادت كلماته تردّد صداها في أذنيّ مرّة أخرى. لقد دعاني لمباشرةِ سلوكِ طريق مثمرٍ في قلب المجهول، ولكنني لم أجد حتى الآن وسيلة للخروج. عشتُ في منفى دائم، بينما وجد كمال وسيلة ليعيش حراً على قمة العالم.
ونحن نهبط من الشرفة ونتّجه إلى ساحل البحر، إلى شاطئ الريفيرا، أشار كمال إلى نوافذ بيت وهمية تطلّ على البحر. وشرح لي كيف أن الإيطاليين أتقنوا هذا النوع من الرسم للإيهام بأن لبعض البيوت نوافذ أكثر ممّا لديها فعلاً. بهذه الطريقة أثّر كمال فيّ؛ رسم ولوّن نوافذ في ذهني تطلّ على أراضٍ حرة. وكان عليّ أن أكتشف كيف ومتى أفتح نوافذ منفاي وأبصر مساراً واقعياً نحو التحرّر.
* فنان فلسطيني من القدس يقيم في برلين
** ترجمة محمد الأسعد