فنّانٌ مرهف الحس ومسكون بهوى القدس التي فقدها صغيراً ولم يتمكّن من العودة إليها. باحثٌ عن الجمال من خلال تجريد الحروف أو الألوان أو الأشكال الهندسية والتفتيش عن مدلولاتها في أعماق تمظهرها. متصوّفٌ زاهدٌ ومتأمّل في تقاطعات القدر القاسية والبتّارة مع حياة الإنسان ومآلاته، خاصة الإنسان المنفيّ أو المغترب طوعاً أو كراهية.
مفكرٌ وناقدٌ متمكّن من تاريخ الفن الحديث بحركاته ونظرياته ومدارسه الفكرية ومن الحركة الفنية في فلسطين والعالم العربي. مناضلٌ بقلمه وريشته من أجل حق فلسطين في الوجود وحق الفلسطينيّين في أن يكون لهم وطن على أرض أجدادهم كما كل شعوب العالم.
هذا هو كمال بُلّاطه الذي فقدناه فجأة، وقبل الأوان، يوم السادس من آب/ أغسطس الماضي، عندما كان يراجع محتوى كتابَين عن فنّه وكتاباته مقرّر لهما أن يُنشرا في كانون الثاني/ يناير المقبل.
وُلد بُلّاطه عام 1942، وعاش طفولته وجزءاً من صباه في القدس قبل وبعد النكبة. تشبّع من جماليات المدينة المقدّسة بالمعاينة وعن طريق الدراسة والتأمُّل. تعلّم رسم الأيقونات على يد الفنان خليل حلبي (1889 - 1964)، وجال في حواري المدينة وبين معابدها وأبنيتها الحجرية التي تَراكم التاريخ طبقات على واجهاتها وفي مفاصلها. أذهلته قبّة الصخرة، التي كان يمكنه أن يراها من منزل العائلة، بصفائها الهندسي الذي يأسر النظر ولا يسرّحه بعدها.
بقي هذا الانطباع معه لعقود طويلة ووجّه اهتمامه الفنّي اللاحق بالتشكيل الهندسي وبالقدرة الفائقة للبنية المضمرة على تفعيل الأشكال العضوية والانسيابية المبنية عليها كما هي قبّة الصخرة، ولكن أيضاً كما حال الخط العربي، وكذلك طبعاً كل الأشكال الحية.
غادر كمال مدينته مكرَهاً إثر الاحتلال الإسرائيلي الثاني عام 1967. درس في إيطاليا وفي واشنطن، العاصمة الأميركية، وقضى بقية عمره منفياً، بالمعنى العميق (الإدوارد سعيدي) للكلمة، بين الولايات المتحدة والمغرب وفرنسا وألمانيا التي قضى فيها. طَبَعت هذه التجربة شخصيته ومقاربته لفنّه بطابع إنساني عميق، رأى كمال من خلاله العالم بعيون تنفذ إلى لب الأشياء وتجول في أعماقها مفتّشةً عن المشترك والمتقارب والمؤنسن.
وكذلك أثّرت هذه التجربة على تموقع كمال في العالم الذي كان له بمثابة بيت للإنسانية كبير، يحتويه ويحتوي أيضاً كل إخوته وأخواته البشر. وإن كان كل ما فيه يُذكّره بمدينته التي فقد، والتي سكنت ليس فقط في ذاكرته وفي وجدانه وفي حياته اليومية، ولكن أيضاً في كل ما أنتج وأبدع.
فالقدس في كل أعمال بُلّاطه هي الحاضرة الغائبة أبداً، الملهمة الأولى والموئل الأخير، محرّكة ذاكرة الطفولة ونضال الشباب وحكمة الكهولة. هي في أعماله، ولكن في فؤاده أيضاً، بوصلته التي يتيه من خلال ترجرج إبرتها تحت وطأة المنفى في كافة أرجاء المعمورة، ولكنه لا يحيد عن الحنين إليها وعن التعبير عن هذا الحنين في كلّ ما كتب ورسم.
وهو في هذا يشبه إلى حد بعيد الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو، ابن البندقية، الذي كانت أعماله بمجملها ولكن بشكل خاص كتابه الصغير "المدن اللامرئية" أغنية حب لمدينته. ولكن حب كمال لمدينته أحدّ وأشد إيلاماً لأنه منفيّ عنها لا يستطيع زيارتها أنى شاء كما كالفينو.
بل إن القدس بالنسبة إلى كمال صليب غير مرئي حمله في أعماقه واستخلص منه قطرات حنين صافية صبغت عمله كلّه بعشق ووله. هذا هو أيضاً حال تفاعله مع غرناطة وقصر الحمراء فيها، جنّة عربية أخرى مفقودة، رأى كمال فيها مرآة فلسطين وسابقتها على درب جلجلة الخسارات العربية.
دراسات كمال بُلّاطه أفضت به إلى الانتماء للتجريد في تعبيره الفني. ربما لأن التجريد يسمح له بمقاربة ما يريد أن يعبّر عنه من دون أن يضطر للإفصاح المؤلم. وربما لأن التجريد يساعده على تجاوز سذاجة الواقع أو قساوته والسبر في أغوار غير الممكن ولكن المأمول والمشتهى.
وربما أيضاً، وهذه الـ ربما شبه مؤكّدة، لأنه رأى في التجريد حقيقة الأشياء أو بنيتها الباطنة التي قضى عمره يستلهمها فنّاً أراده أكثر جمالاً وتعبيراً وتأمّلاً من القشور الظاهرة وأعمق تأثيراً. النفاذ إلى حقيقة الأشياء كان المحرّك الأول لفن كمال، ليس فقط لأنه كان باحثاً مثابراً، كما تبيّن كتاباته العديدة عن تاريخ الفن الفلسطيني وعن حركات الفن الحديث والمعاصر، بل لأنه كان أيضاً صوفياً حقيقياً لا يكتفي بمظاهر الأشياء وإنما يروم منها أن تدلّه على لب كنهها الذي هو في المحصلة واحد يجمع في بوتقته كل الناس وكل المخلوقات وربما كل الأشياء.
أي أن فن بُلّاطه كان مدخلَه إلى إنسانيته الشاملة التي صهرت تفكيره وشكّلت شخصيته وصاغت فنّه على الرغم من أن ظروف حياته ومنفاه وفقده لوطنه على يد "إسرائيل" كان يمكن لها أن تجعل منه حاقداً ومنغلقاً على هويته الوطنية الجريحة والمسلوبة. ولكنه ترفّع عن تلك الضغائن وأبدع فنّاً متسامحاً، رؤوفاً، محبّاً، والأهم من ذلك كلّه، جميلاً بعذوبة رائقة كالشعر الذي أحبه وقرأه وشكّله تجريداً في أعمال مشتركة مع شعراء كبار كمحمود درويش وأدونيس.
ومع ذلك فهناك في فن كمال بُلّاطه، بل وفي سيرورته في العالم، وعي كبير وواضح بالهامشية المضاعفة التي ألقاها الدهر على عاتقه: هامشية "الآخر" وهامشية الفن كـ"آخر". فهو خبير قديم بالوطأة الوجودية لـ "الآخر"، وبشكل خاص الآخر المنفيّ عن بلده بقوّة غاشمة، الذي تاه في الأرض لا ليستقر في مرفأ آمن ولكن لكي يصوغ من كل المتناقضات والثغرات التي شكلت حياته في القدس وخارجها كلاً تعبيرياً متكاملاً يشهره في وجه العالم كجوابٍ معبرٍ عن مأساته الشخصية والوطنية، وطبعاً - بما أننا نتكلم عن كمال - الإنسانية.
أمّا هامشية الفن كآخر فهي نتاج الحالة التاريخية التي وجد كمال الفن فيها في الثقافة العربية، هامشياً بالنسبة إلى مجالات الإبداع الأخرى كالشعر والموسيٍقى، وكذلك الحالة التاريخية التي واجهها الفن الفلسطيني، والعربي بشكل عام، هامشياً في مواجهة الثقافة الفنية العالمية.
وهو قد تعامل مع كلا التحديين بحكمة وحنكة ونفس طويل، متسلّحاً بفهم عميق للتنظير المعاصر الذي ساعده على فهم نفسه وعلى قولبة موقع كينوني لفنّه على هامش الهامش ظاهراً (فهو يغرّد خارج السرب منذ سنوات إن فلسطينياً أو عربياً أو عالمياً) ولكن في قلب انزياح فرضه على المركز، هوياتياً وتجريدياً. وأصبح جَرّاءه في الآن نفسه نسيج وحده، وواحداً من أولئك القلائل الذين يخلقون للفن المعاصر حقله المعرفي وأدواته التعبيرية... وياله من إنجاز.
* مؤرّخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا