كغيره من كبار جيل التحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، ساهم كمال بُلّاطه في خلق منافذ إبداعيّة مهمّة لتحديث التعامل مع التراث العربي الإسلامي من داخل رؤية تشكيلية تجريدية مخصوصة تعتمد على استثمار الخط الكوفي المسطري، دون الفصل بين الدلالة اللغوية النصية والدلالة البصرية الخالصة.
وإذا كان الفن العربي الإسلامي تجريدياً بامتياز، فإنّ مفهوم التجريد في هذا الفن يلامس مفهوم التجريد في الفكر الفلسفي المشّائي من حيث هو تعريه للشكل من تفاصيله "العرضية" والإبقاء على هيكله "الهندسي" العام، أو لنقل، من حيث هو "انتزاع" بلغة ابن سينا، انتزاع الموضوع الحسّي من تفاصيله التشخيصية.
فعلى عكس زملائه من الفنّانين الحُروفيّين العرب الذين اتّخذوا من الحُروف مادّة تشكيلية مجرّدة، مثل نجيب بلخوجة من تونس أو عبد الله الحريري من المغرب، لم يفصل بُلّاطه بين العلامة التشكيلية ووظائفها داخل النص المكتوب. ومن ثمّ، جاء بلوحة إنّما نتدبّرها بصرياً بوصفها منجزاً تجريدياً قائماً على الحركة والإيقاع والتوليف (وهي مقوّمات الإنشاء الفني في الخط العربي والرقش خاصّة)، ولكن أيضاً نقرأها مثلما نقرأ لوحة خطية لآيات قرآنية؛ إذ أن البعد الروحاني الذي اقترنت به الحروفية العربية وازدهرت، خاصّة سنوات الستينيات والسبعينيات، إنّما نستدرجه ها هنا على نحوٍ مزدوج، وذلك من خلال قراءة الحروف/ الكلمات، تارة (وهو ما يتعلّق بالماهية اللغوية للنص)، ومن خلال الحروف/ العلامات البصرية، تارة أخرى (وهو ما يتعلّق بالماهية التشكيلية للوحة).
وكما قال شربل داغر في كتابه "الحروفية العربية، فن وهوية"، فإنّ كمال بُلّاطه هو ممّن اكتشف فنية الكتابة في الغربة، غربته في واشنطن. وهو ما نلحظه في شهادة الفنّان نفسه: "حيث تغيب عن الطبيعة، لا تبقى إلاّ الكلمة". ونفهم من الطبيعة البيئة الحسية الأمّ والمُدرك الفيزيائي اللصيق الذي نشأت عليه الذات وترعرعت.
ومثل هذا التجاذب، الذي يعيشه المتلقّي ما بين النص والصورة أو ما بين اللسان والعين، يحمله الفنان الفلسطيني محمل خير، إذ يراه نوعاً من التكامل في كتابة الذات والعالم. كتابة الذات من جهة التعبير عن هوية لسانية ومرجعية، لم يجد بُلّاطه سواها في غربته الأميركية، منذ أواخر الستّينيات، كدعم لوجوده العربي والفلسطيني هناك، وكتابة العالم، من جهة التعبير عن العالم البصري الذي عاشه وقد تحوّل إلى مجموعة مفردات بصرية متحرّكة تقوم عليها ضروب الوجود.
فمع هذا الرجل وبفضل منجزه الفني تذوب كلّ من حضارة الكلمة (الشرق) وحضارة الصورة (الغرب)، داخل كون دلالي مشخَّص هو عين الكون الذي تتحرّك فيه فرشاة الفنّان وتشهد فيه مختلف تطوّراتها. ونحن، هاهنا، إزاء كتابة دؤوبة للذات من أجل أن تؤكّد حضورها في المكان (الأرض الأم وخارجها) والزمان (التاريخي والإبداعي) وتقاوم التلاشي وتحتلّ موطئ قدم في هذا النص الكوني الكبير الذي يتوجّب علينا أن نُسهم في كتابته وإلاّ فسنكون خارج النص وزمانه، بل وخارج الأرض وما تحبل به من أحلام. أليس "العالم حروفاً مرقومة على رقّ الوجود والكتابة فيه دائمة أبداً" بعبارة صاحب "الفتوحات المكية" محيي الدين ابن عربي؟ وذلك ما يحيلنا إلى البعد الرمزي في فن هذا الرائد.
يقول متصوّف آخر هو محمّد ابن الحسن النفري، صاحب "المواقف والمخاطبات": "كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة"، ولنا أن نفهم من ذلك أنّ الرؤية بما هي "رَوِيّة" بلغة الفارابي (ترَوّى في النظر والحكم) تشمل ها هنا كلّاً من النظر والتعقّل في آن. وعندما تنضج الرؤية وتتّسع مراميها تفصح العبارة عن عجزها وقصورها. إذ الرؤية نتاج عقل فعّال وفيّاض بينما العبارة منفعلة ومحكومة بقدرات الكائن الإنساني وبمدى جاهزية اللغة للتعبير عن الرؤية، بل ومحكومة أيضاً بقدرات الإنسان المادية والروحية.
وقديماً قال أبو حيّان التوحيدي: "الخط هندسة روحانية كُتبت بآلة جسمانية". وفي هذا السياق الميتافيزيقي والصوفي الذي رافق فلسفة الخطّ العربي وهاجر معها إلى الحروفية في الفن لدى عديد المحدثين، كأنّنا بإدراج كمال بُلّاطه لكلّ من الرؤية والعبارة في كون إبداعي موحّد، إنّما هو تأكيد على رغبة في لملمَة شتات الوجود وتوحيد ممكنات الذات في لحظة معانقة وجودها الفعلي.
ولقد جرّد الفنانُ الحروفَ وأسلبَها وصيّرها إلى علامات هندسية مجرّدة باذخة ولكنها تبقى قابلة للقراءة، حيث أنه يُبقِي على هيكلة الحروف. كما حوّل هذه الحروف إلى مفردات (modules) أو وحدات شكلية متجاورة، متناضدة، متعادلة، كما في مفردات فن الرقش أو الأرابسك التي تثير الحركة فتنشّط التبادل الحركي ما بين العين الباصرة والشكل المُبصَر. ومن ثم، ابتكر بُلّاطه كوناً رمزياً هندسياً من حروف مؤسلبة ومربّعات ومفردات شكلية تستمد جذورها من الفلسفة الروحية للخط العربي وفن ترقيم الكتب والعمارة الإسلامية.
وعلى هذا النحو، أسهم بُلاطه في مُراكمة بنية وعي الحداثة الجمالية من خلال التجذير والتحديث انطلاقاً من معالجته الإبداعية للتراث. فلم يستورد الرجل مفردات غربية، لا من انطباعية سيزان ولا من تكعيبية براك وبيكاسو، بل شغّل خزّانه الحضاري وجهّز قاموسه انطلاقاً من ثقافة التجريد التي يتميّز بها الفن العربي الإسلامي، فأكّد مرّة أخرى قدرة هذا التراث (وهو في الأصل تراث للصناعة الحِرفية) على مجابهة تحديات الراهن والإسهام فيه. ذلك هو الرهان الإبداعي من أجل تأصيل الكيان وتحديثه، وذلك هو الدرس الذي يمكن أن يفيد الفنّانين الشباب في بلداننا.
وفي هذا الأفق، نلامس ضمن هذا المنجز معنى المقاومة وهو بُعد ثاوٍ ولا يمكن أن نتحدّث عن هكذا مسيرة لمثقّف فلسطيني رائد عاش في أميركا وعرض أعماله في العديد من أصقاع العالم دون هذا البعد. وبين كمال بُلّاطه وإدوارد سعيد وشائج قرابة ممكنة على الأقل على مستوى الفكر المناضل.
من خلال ما تقدّم، تنخرط مسيرة هذا الفنان الملتزم في هاجس المقاومة الثقافية باتجاه تأكيد الذات واسترجاع زخمها الرمزي والفكري في شكل تعبير فني حديث. ولكن لكمال بُلّاطه إسهام في التعبير عن مفردات القضية الفلسطينية وما تُضمره من توق إلى التحرُّر الوطني. فالرجل توّاق إلى ربط حركة الفن بمفاهيم المكان، الأرض، الوطن، كما أشار منذر مطيبع في "حدود الوعي بالتجريد الهندسي في التشكيل العربي المعاصر"، إذ أنّ صورة القدس جزء مهم من مكوّنات الذات وهي تنفث تطلّعاتها وتنسج بها مستقبلها بلغة الخطوط والألوان والأضواء.
وفي هذا المستوى، يُدرج الفنان، فضلاً عن قاموسه الحروفي الهندسي، شخوصاً مجرّدة تُجسّد الإنسان الفلسطيني وهو يتألّم ويصرخ غاضباً ويواجه عدوّه ويقاوم. دون الحاجة إلى توصيف سردي لمسار المقاومة، إذ للشكل الفني وما يتوفّر عليه من خصوبة تعبيرية وخبرة في الإيحاء وذكاء في الإبلاغ يُغني عن حصر المشهد في دلالة مباشرة ذات معنى واحد لا يدعو إلى التأويل. إلّا أن الفنّان يتعمّد أحياناً استحضار بعض العلامات الأيقونية المباشرة المتعلّقة بحياة الفلسطيني الذي بداخله وهو يطالب بالحرية ويقدّس الأرض ويُعلن شوقه إلى ثيمة الوطن، وذلك لتعزيز الدلالة.
وفعلاً، "موت الفنان حقيقة لا بد منها، حتى تبدأ أعماله دورة حياة متجدّدة" كما قال فاروق يوسف في "أقنعة الرسم". وتظلّ أعمال كمال بُلّاطه مفعمة بالحياة، زاخرة بمعنى الوطن وعنواناً للصمود. كما تظلّ هذه المسيرة مفتوحة على احتمالات قرائية وتأويلية شتّى، وهي من الثراء بحيث تحتمل أبواباً أخرى للنظر. والنظرُ مستمر...
* باحث تونسي في الجماليات