حين وصلَنا خبر رحيل كمال بُلّاطه المؤسف، راجع كل فرد من أفراد العائلة وثائق سفره لمعرفة من لديه تأشيرة للسفر ليكون إلى جانب "لِلي" في هذه الفترة العصيبة. وأنتم تعرفون ما سيأتي بعد هذا. ولكن عليّ مع هذه التأشيرة أن أحمل بقلب مثقل كل حكايات أبي وعمّي وإخوتي وأصدقاء طفولة كمال وآلاف آخرين.
تذكَّرَ أبي اليوم الذي وُلد فيه كمال، أبي يكبره بعشر سنوات، ويتذكّر كيف أنَّ عمه يوسف قال إنه سمّى ابنه الجديد كمال، تمام، لكونه الرقم المكمّل لعائلة من ستة أفراد. واعتاد يوسف، الأب، الموظّف الرفيع في دائرة البريد في القدس، أن يفتخر بالكيفية التي نشأ فيها كمال ليصبح مكتمل الإنسانية عن طريق حبّه للفن. لقد شكّل الفن قيمه الإنسانية تشكيلاً مثالياً بالحب وبالحساسية المفرطة تجاه الظلم.
ويتذكّر عمّي عطا الله كيف أن كمال اكتشف موهبته منذ سن السابعة، وطلب منه أن يأتي إلى البيت ويجلس ليرسمه بقلم الرصاص. ومع أن مساره السياسي حرمه من العيش في مدينته المحبوبة، القدس، التي ارتبط بها عاطفياً، إلّا أن أخي حين كان يقدّم نفسه باسمه، حنا بُلاّطه، كان السؤال التالي ما هي صلتك بكمال بُلاّطه؟ وهذا يؤكد على أن وجود عائلتنا واسمها في القدس ماثلٌ أقوى من أي حدود سياسية ظالمة أو قوى استعمارية، وأن كمال ظلّ موجوداً في القدس على الرغم من أنه يعيش في المنفى.
ابنة أخي "سما" التي التقت بكمال لأوّل مرّة، وآخر مرّة لسوء الحظ، قبل أسبوع من رحيله المفاجئ، تتذكّر كيف أنها داعبته بقولها إنها تمتلك غمّازة على خدها مثله تماماً، وأنها تعتز بدم عائلة بُلاّطه الذي يجري في عروقها مثله أيضاً. في هذه السنة توثّقت العلاقات بين أفراد عائلة بُلاّطه على الرغم من تشتّتهم في مختلف أنحاء العالم بعد النكبة الفلسطينية في عام 1948، بسبب فقدان فردَين من أفرادها؛ عمّي الكبر "إلياس" في آذار/مارس، ثم عمّي "عيسى"، شقيق كمال الأكبر في كندا، في أيار/مايو.
كان كمال قد طلب منّا أن نلتقي. طلب مني الانضمام إليه أثناء زيارته لبيروت في يونيو/حزيران الماضي، الأمر الذي لم أتمكّن منه لمعرفتي بالصعوبات الهائلة التي تحول دون دخول فلسطيني مقدسي إلى هناك. وتعويضاً لهذا كان لقاءُ أخي هاني وعائلته في باريس. ومع أنه كان لقاءً قصيراً إلا أن كمال أرسل إلى كل فرد من أفراد العائلة بعض أعماله الفنية الثمينة وعليها توقيعه؛ إهداءٌ يعبّر عن الحب، وضمنها نسخة أصلية عن عمل فني إبداعي له مع "أدونيس" عنوانه "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة".
وبالعودة بالذاكرة الآن إلى هذه الأحداث الأخيرة شعرنا كيف كان كمال يحنّ إلى القدس وإلى عائلته وذكريات طفولته. وشعرنا كما لو أنه كان يودّع العائلة، ويودّع القدس. هل يشعر القريبون من الموت به بطريقة ما، فيحاولون إرسال رغباتهم برسائل قصيرة، وموجزة أيضاً؟
هكذا نشعر ونؤمن حين عدنا إلى القدس. لذلك ثقي يا عزيزتي "للي" أنَّ كمال لم يغادرنا.
قلبك ووجهك وإخلاصك وسجيتك ونقدك الفني المهني، كل هذا يُبقي كمال حيّاً بيننا. أنت ذاكرة كمال الحية المضيئة ومساهمته في قضية فلسطين والإنسانية. نرجوك بوصفك فرداً عزيزاً من أفراد العائلة، أن تعتمدي علينا في أي أمر تحتاجينه في مقبل الأيام، متمنّين لك العافية والعمر الطويل. إن أبناء عائلة بُلاّطه يتشرّفون بأن يمضوا بتراثه قُدماً من جيل إلى جيل، وأن يدعموك ويدعموا أصدقاءه في الحفاظ على تراث كمال والمضي إلى الأمام بالأحلام التي لم تكتمل بعد، معتزّين بأن أعماله الفنية ستبقى أبداً.
* ناشطة مقدسية وابنة عم كمال بُلّاطه التي ألقت كلمة العائلة في الصلاة الوداعية في برلين الخميس الماضي
** ترجمة محمد الأسعد