لا أدري لماذا خطرت ببالي حين وصلني نبأ رحيل الفنّان والمفكّر المقدسي كمال بُلّاطه، لأول وهلة، هذه السطور من قصيدة لوركا في رثاء صديقه إغناسيو سانشيز:
"لن أراه
قولوا للقمر أن يأتي
لأنني لا أريد أن أرى دم إغناثيو
على الرمال".
وعُدتُ إلى القصيدة وظلالها، وتراءت في ذهني صورة أخرى؛ هاملت الدنماركي الذي ارتحل في نهاية المسرحية الشكسبيرية مثلما يرتحل أبطال المعارك لأنه - حسب ما قيل - كان مقاتلاً على صعيد الجهاد الروحي فاستحق هذا التكريم. قد أكون متأثّراً في كل هذا بعوالم الفنون البصرية والكلامية، ولكن لا..
سيرة كمال كما عرفتها عن قرب هي سيرة مقاتل على صعيد الوعي، وصورته التي مثّلت في ذهني هي الصورة التي اختارها في سنواته الأخيرة "التركيز على موضوع الشفافية" بعد رحيل بين عدد من الثقافات، ذاك الرحيل الذي أنشأ لديه الوعي بأبعاد متزامنة، فكان "وعياً طباقياً" بتعبيره.
ليأت القمر إذاً، ولتكن تحية الوداع الأخيرة لكمال بُلّاطه هي ذاتها التي تودّع فيها الثقافات الحية أبطالها، لأن دمهم بالفعل هو الذي سُفح في المنافي، ولم يكونوا مجرّد محترفي وصناع فنون أو كلمات. سأتحدث إذا عن منجزات فنان مفكّر في وقت واحد معاً، وأضعها في مكانها الصحيح كمنجزات تصنع لنا تاريخاً أو تصحح لنا التاريخ.
كان لقائي الأول به منذ سنوات منفاه الأولى في الولايات المتّحدة على صفحات مجلات عربية مثل "مواقف" بشكل خاص، إلا أن منجزه الفكري المتمثّل في كتابه "الفن الفلسطيني من 1850 إلى الزمن الراهن" (2009)، ومن قبله "استحضار المكان" (2000) هو ما قدّم تجديداً فكرياً كنّا بحاجة إليه على صعيد الثقافة العربية، والفلسطينية منها بخاصة، حين أنجز إحاطة بتاريخ الفن الفلسطيني غير مسبوقة، وطرح نهجاً في الكتابة واعداً، أعني ضرورة التنقّل بين الأزمنة والأمكنة جيئة وذهاباً ليس لكتابة سيرة الفن الفلسطيني، بل وسيرة الشعر والرواية والنقد والحراك السياسي والفكري، تأسيساً على أن الشتات الفلسطيني رافقه شتات على كل صعيد، ولم يعد ممكناً كتابة أي نشاط أو فعل فلسطيني إلّا بهذا التردّد بين الماضي والحاضر، وبين هذا المكان وذلك، وفاءً لحقيقة الواقع الفلسطيني وتأسيساً للهوية التي لا تُمحى مهما كان نصيب حياة الفلسطيني من تشظٍ ونفي طوال ما يقارب القرن.
كمال إذاً بهذا المعنى أستاذٌ لا نكاد نجد له نظيراً. وكان من حسن حظّي أنني اطلعت على آخر محاضرة له تحت عنوان "سفر بين الشفافيات"، ألقاها في المغرب خلال ندوة أصرّ فيها على تقديم محاضرته باللغة العربية. ولفتت نظري في هذه المحاضرة نوافذ فتحها على صعيد الفن العربي ووعي أبعاده. أكثرها أهمية تركيزه على العلاقة المثمرة بين تراث الفن البيزنطي وتراث الفن العربي الإسلامي. وجاء هذا التركيز نتيجة جهد دراسي بالطبع، بالإضافة إلى أنه نتيجة نشأته في القدس حيث تعايشت فنون جاءت إلى فلسطين من أزمنة وأمكنة أخرى، كفن الأيقونة والفن الهندسي الإسلامي.
يقول في المحاضرة عن هذه الصلة: "في أول لقاء لهم بتراث الحضارة البيزنطية، قام الصنّاع والحرفيون خلال العصر الأموي بصهر العناصر الفنية البيزنطية وإعادة ابتكار أبجديتها بصفتها لغة قابلة للتكيف في تعبيرهم الفني.. وهكذا برز ما استجدّ في الفن المبتكر منذ إطلالة فجره في القدس وفي دمشق، حتى ازدهاره في الأندلس. ومن بغداد العباسية انتقلت لغة التجريد الهندسي إلى فارس، ومنها إلى الشرق الأقصى، حيث تابع ميراث الفن الإسلامي تفتّحه وتطوّره استجابة لموروثات فنون من مختلف الحضارات".
وبهذا النهج، نهج التقصّي في ضوء الشواهد الفنية الحاضرة في حافظته الثقافية، نجده يكشف عن "عمق المدى الذي بلغه التجريد في الفن الغربي إثر لقائه بالفن العربي الإسلامي" كما قال، في إشارة إلى معرض الفن الإسلامي الكبير في العام 1910 في ميونخ.
في سنواته الأخيرة، وفي سفره الفني، رسماً وتفكيراً، بين الشفافيات، يتوصّل إلى شرح معنى الخاصية المميزة لفنّه؛ التجريد الهندسي الذي يعتز أنه استمده من التراثَين "الشقيقين" كما كتب حرفياً، وبتعبيره "الإمعان في ما وراء المرئي"، على اعتبار أن الفنانين يبحثون عن رسائل آتية من وراء المرئي.
صحيح أنه فسّر فنّه بهذا الوعي، إلّا أنه من الممكن استخدام هذا الكشف لتفسير ما هو عصي على التفسير في أذهان الجمهور العام في نظرته إلى الفن التجريدي.
ما الذي يبقى من المحارب الذي يسقط في المعركة، هو ذاته ما يبقى من الفنّان والمفكّر الذي يرتفع في معركة الوعي، أي معركة التحرير التي تتفوّق على غيرها من المعارك؛ إنجازه بالطبع. وإنجاز هذا الإنسان المنفي والمبعد عن وطنه منذ أكثر من خمسين سنة يستحق أن يوضع في مصاف منجزات الكبار الذي لا يرحلون حتى وإن رحلوا.
* شاعر وروائي وناقد فلسطيني