يُنذر المشهد العام في لبنان بمسار تصعيدي في اتجاهين؛ الأوّل مواجهة بين الحكومة والمصارف مع إصرار السلطة على زيادة فوائد الودائع من 7% إلى 10%، وبين الحكومة وموظفيها المُضربين اعتراضاً على نيّتها خفض بعض فئات الرواتب، مع تحذير أصدره رئيسها سعد الحريري يطلب فيه من الإدارات المعنية محاسبة من اعتبرهم مخالفين لقواعد العمل.
فقد استمر اليوم الإثنين، الإضراب في "مرفأ بيروت" و"مصرف لبنان" (المركزي) و"الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" وعدد من الإدارات، وسط اتصالات مكثفة واجتماعات على أعلى المستويات من أجل البحث عن تسويات وحلول، في وقت واصل مجلس الوزراء دراسة مشروع قانون موازنة 2019، بما يتضمّنه من مقترحات ضريبية وتقشفية لتخفيف العجز المالي.
موظفو "مصرف لبنان" عادوا صباح الإثنين، للتجمّع في باحات المصرف، تأكيداً على استمرار الإضراب المفتوح ورفض مذكرة إدارية صادرة عن رئيس الحكومة بخصوص منع الموظفين من حق الإضراب، قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق في اجتماع عقدته نقابة الموظفين مع حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، على استمرار الإضراب، لكن مع استمرار الأنشطة المصرفية ومنها فتح عمليات القطع، وتسعير رسمي لليرة اللبنانية مقابل الدولار وبقية العملات الاجنبية، وإعادة فتح التحويلات الخارجية للقطاعين العام والخاص.
النقابة أوضحت في بيان أنها ستقرر يوم الثلاثاء، في جمعية عمومية طارئة، اتخاذ القرار المناسب "بناء لطلب الحاكم من مجلس النقابة وقف الإضراب والإقفال الذي أحدث شللاً في الأسواق المالية، وبات يؤثر سلباً على حركة التحويلات الخارجية وحياة المواطنين، استناداً إلى تطمينات تلقّاها من رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، ومن رئيس مجلس الوزراء، سعد الحريري، بعدم تضمين مشروع الموازنة أي بنود تمس حقوق موظفي مصرف لبنان".
وقالت النقابة إن قرارها المنتظر، صباح الثلاثاء، سيُبنى "على ضوء ما يصدر عن مجلس الوزراء بالنسبة لشطب البنود المتعلقة بمصرف لبنان وحقوق موظفيه"، فيما أشار رئيس النقابة، عبّاس عواضة، إلى أنه "في حال تم سحب البنود التي تمسّ بحقوقنا وحقوق كل موظفي الدولة من الموازنة، فسنُعلق الإضراب"، لافتاً إلى أن "المركزي" هو مؤسسة مستقلة بموجب القانون، ويجب أن يبقى كذلك.
وقال مروان مخايل كبير الاقتصاديين في بنك الاستثمار "بلوم إنفست"، إن البنوك ما زالت قادرة على تدبير السيولة من خلال سوق ما بين البنوك، لكن عمليات مقاصة الشيكات توقفت، مضيفاً: "سيكون للأمر تأثير في نهاية المطاف، لكن أعتقد أن الأمور ستكون على ما يرام في المدى القصير".
استئناف الحكومة درس مشروع الموازنة
الحكومة استأنفت في السرايا الحكومية بعد ظهر الإثنين، مناقشة بنود الموازنة، واستبقها وزير المالية، علي حسن خليل، بتصريح للصحافيين عقب فيه على أنباء بأن وزارته تحاول فرض وصايتها على القطاع المصرفي، بالقول إن "هذا الكلام سخيف لا أساس له من الصحة"، لا سيما أن "مصرف لبنان" لديه نظامه الخاص.
وانتهت عند الخامسة والنصف عصر الإثنين، جلسة مجلس الوزراء، وأدلى وزير الاعلام جمال الجراح بالمقررات الرسمية، مشيراً إلى تشديد رئيس الحكومة على ضرورة تسريع إنجاز مشروع الموازنة، وستكون ثمة جلسات يومية حتى الانتهاء منها خلال هذا الأسبوع.
وجاء في بيان الاجتماع أنه "تم التداول بما يجري في الشارع من إضرابات وتظاهرات جرت معظمها بناء على معلومات خاطئة، وتستند إلى معطيات لم يتم التداول بها أساساً في جلسات مجلس الوزراء، وبعض هذه الإضرابات تمّ بذريعة الإضراب الاستباقي".
وأوضح مجلس الوزراء أن "ما يجري تسريبه من معطيات لا أساس لها من الصحة، وهي تسريبات مجتزئة ومضللة للرأي العام، لا تخدم المصلحة الوطنية ولا المواطنين على حد سواء، ولا تساعد على بناء الثقة بين الدولة والمواطن، في وقت تعمل الحكومة على استعادة الثقة بين المواطن والقائمين بالخدمة العامة ومؤسسات الدولة".
أضاف أن "ما يجري من تعطيل للمرافق العامة والمؤسسات في هذا الظرف الدقيق، ما هو إلا عامل إضافي في زيادة تعقيد الأزمة واستفحالها، في الوقت الذي يجب أن تتضافر الجهود الإيجابية للمساهمة الإنقاذية المشتركة انطلاقاً من مسؤولياتنا الوطنية المشتركة".
وتبنى مجلس الوزراء مضمون مذكرة رئيس مجلس الوزراء رقم 14/2019، وشدد على الدعوة إلى الاحتكام إلى منطق القانون والعقل والمسؤولية الوطنية تجاه المواطنين، وتجاه منطق الدولة والمؤسسات. وأكد حرص المجلس على تأمين مصالح جميع المواطنين التي تسمو كل اعتبار.
وطلب مجلس الوزراء من كل الذين توقفوا عن العمل الالتزام بمذكرة رئيس مجلس الوزراء، وأن يقفوا على حقيقة الأمور من مصدرها وعدم الأخذ بالشائعات التي تهدف إلى إجهاض الخطط الإصلاحية المتكاملة، لإنقاذ البلد، كما أن الرئيس وجميع الوزراء، أبوابهم مفتوحة للحوار والنقاش المسؤول مع كل مكونات المجتمع اللبناني وإيضاح ما هو ملتبس لديه.
كذلك، أكد مجلس الوزراء أن مقاربته تنطلق من خطته من خفض العجز في الموازنة، وضبط الإنفاق غير المجدي، ومعالجة الإهدار في الكثير من مرافق الدولة، واتخاذ تدابير أكثر جدية في الحفاظ على المال العام.
وقال إن تحفيز الاقتصاد عبر سلة من الإجراءات يساهم في النمو وجذب الاستثمارات الخاصة وإيجاد فرص العمل، وتعزيز قدرات الاقتصاد الوطني، والاستفادة من الفرص المتاحة عبر مؤتمر "سيدر" الذي سيساهم بدوره مساهمة فعالة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والنمو ورفع كفاءة البنى التحتية.
درس مجموعة إصلاحات بنيوية
كما أكد المجلس أن مقاربته الاقتصادية والمالية والإصلاحية المتكاملة تتطلب مساهمة ومشاركة الجميع في الحلول لأنها بالنتيجة لمصلحته، مضيفاً أن "مجلس الوزراء في صدد إقرار جملة إصلاحات بنيوية تتطلب إعطاء حوافز وإعفاءات وإقرار استثمارات كبيرة وجدية، لتنشيط الاقتصاد ووضعه على سكة النمو، إضافة إلى إصلاحات إجرائية وإدارية، تعزّز إنتاجية الإدارة، وترفع مستوى خدماتها للمواطنين وتوقف الإهدار".
وقال إن "الحكومة حريصة بالكامل على استقلالية مصرف لبنان التامة، بصفته سلطة ناظمة للقطاع المصرفي، والمسؤول عن السياسة النقدية في لبنان، وهي لا ترغب تحت أي ذريعة في التدخل في قراراته وسياساته من ضمن القوانين المرعية الإجراء، وأهمها قانون النقد والتسليف".
ضريبة الفوائد على الودائع المصرفية
وزير الإعلام سُئل بعد الجلسة: "ثمة مشكلة بين الحكومة والمصارف وفي الموازنة ثمة ضريبة على المصارف، فهل توصلتم الى اتفاق بينكم وبينها، وهل ثمة رأي موحد في الحكومة حيال هذا الموضوع؟"، فأجاب بأن "الموضوع ليس موضوع تفاوض، فالحكومة هي المسؤولة، ثمة بند في الموازنة مطروح أمامها اليوم تقوم بمناقشته لاتخاذ القرار المناسب. فهي كسلطة تنفيذية صاحبة القرار بما هو معروض عليها من وزير المال في مشروع قانون الموازنة".
وسُئل الوزير: "لماذا كل البنود المتعلقة بالمصارف وبمصرف لبنان وضعت جانباً؟"، فقال: "هذا الأمر غير صحيح. لقد بدأنا نقاش المواد المتعلقة بمصرف لبنان وبغير مصرف لبنان عند الخامسة إلا رُبعاً، ولم تكن ثمة مشكلة سوى مشكلة الوقت، وغداً (الثلاثاء) مع بداية الجلسة سنستكمل نقاش هذه المواد، فلم يتم إرجاؤها، لا بسبب ضغوط ولا بسبب إضرابات، لقد تأخرنا في البدء في مناقشة هذه المواد ولا عامل ضغط علينا سوى الوقت".
وعن موضوع زيادة ضريبة الفوائد من 7% إلى 10%، قال الوزير: ""تتم مناقشته. وكذلك وضع مصرف لبنان وبعض المؤسسات الأخرى وبنود واردة ضمن مواد يتم مناقشتها كسلة واحدة".
رئيس الجمهورية و"الاتحاد العمالي"
وعلى وقع التطورات الحاصلة، التقى رئيس الجمهورية، ميشال عون، رئيس الاتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، وعرض معه أوضاع العمال وهمومهم في ظل بحث الحكومة مشروع قانون الموازنة العامة.
بعد اللقاء، شكر الأسمر "الرئيس عون على إعادة إحياء الحوار مع الحكومة حول حقوق الطبقة العمالية في القطاع العام، والأهم ألا يدفع القطاع العام مسؤولية الوضع الاقتصادي".
وواصل العاملون في "الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي" ومصالح المياه والكهرباء و"أوجيرو" (الاتصالات) في المركز والمناطق، الإضراب والامتناع عن تقديم أي خدمات، التزاماً بدعوة "الاتحاد العمالي العام".
جنبلاط: التقشف أفضل من الانتحار
وغرّد رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي"، وليد جنبلاط، عبر حسابه على "تويتر"، يوم الإثنين، قائلاً إن خطة التقشف التي وضعها وزير المالية "أفضل من الانتحار"، مؤيداً بذلك مشروع موازنة 2019. وكتب جنبلاط: "أرى أن تنفيذ سياسة التقشف التي أوردها الوزير (علي حسن) خليل مهما قست أفضل من... الانتحار".
Twitter Post
|
وفي تغريدة أخرى، قال جنبلاط: "يذكر الحزب الاشتراكي بموقفه التاريخي المطالب بالضريبة التصاعدية بعد إقرار الدخل الموحّد وتغريم المستبيحين للأملاك البحرية لصالح الخزينة وليس لصالح المخالفين وإعادة النظر بالتدبير رقم 3، وإقرار سلسلة رتب ورواتب موحدة وكارثة الكهرباء والأفضل إقرارها اليوم تفادياً للصعود إلى المجهول".
هيئة التنسيق النقابية والجامعة اللبنانية
إلى ذلك، عقدت هيئة التنسيق النقابية اجتماعاً بحثت خلاله "في آخر مستجدات النقاش في مجلس الوزراء لمشروع الموازنة للعام 2019"، وخلصت إلى أن "الأساتذة والمعلمين والموظفين والمتقاعدين لن يكونوا لقمة سائغة، ولن يكونوا الحلقة الأضعف، فالساحات تشهد على تحركاتهم المطلبية التي كفلها الدستور ومنظمات حقوق الإنسان ولا داعي الى تذكيرنا بالمادة 15 من المرسوم الاشتراعي 112".
وأملت بأن "تكون التصريحات التي تصدر عن بعض المسؤولين والتي تطمئن بأن لا مساس بالسلسلة، والتقديمات الاجتماعية صادقة وغير مخادعة، فالشارع ليس في حاجة إلى التعبئة بعدما وصل إلى مسامع الجميع ما يحاك وما يدبر إذا كان صحيحاً، فإن البلد مقبل على ثورة اجتماعية، فالإضرابات لم تعد تنفع وموعدنا سيكون في الشوارع والساحات بما في ذلك عدم إنهاء العام الدراسي وإقفال الإدارات العامة، عندئذ لن تنفع الوعود والشعارات الفارغة وستؤدي حتماً إلى انهيار الهيكل على رأس الجميع".
كما اعتبرت الهيئة التنفيذية لرابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، في بيان، أن "حل الأزمة الاقتصادية الراهنة يكون فقط من خلال سد مزاريب الهدر والسرقة التي أصبحت معروفة للجميع".
وأعلنت الهيئة التنفيذية الإضراب الشامل والكامل في الجامعة اللبنانية ابتداء من اليوم وحتى إقرار الموازنة في مجلس الوزراء، معتبرة "أن الإضراب المفتوح سيكون معلناً تلقائياً إذا مسّت التقديمات الاجتماعية والرواتب والنظام التقاعدي".