أجبر الحصار الإسرائيلي، المفروض على قطاع غزة منذ 16 عاماً، آلاف العمال إلى البحث على مضض عن مصدر رزق في الأراضي الفلسطينية المُحتلة (إسرائيل)، ورغم ذلك، فإن هذا الوضع يبدو أيضا رهينة أهواء الاحتلال، حتى أضحت لُقمة العيش التي يجلبها العُمال غير سائغة، إذ تخضع لتهديدات متواصلة بالتوقف، وذلك وفقاً للقرارات الإسرائيلية، التي ترتبط على الدوام بالمزاج العام.
كما يرفض الاحتلال الإسرائيلي إطلاق اسم "عامل" على حملة التصاريح من قطاع غزة، بهدف عدم الالتزام بدفع حقوقهم المالية والعُمالية، فيما لا يزال العُمال يعانون من انتهاكات في العمل، وتهديد متواصل بقطع أرزاقهم، وفقًا للتطورات الميدانية.
وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في مايو/ أيار الماضي، قدمت إسرائيل آلاف تصاريح العمل لفئات محددة في إطار التفاهمات مع الفلسطينيين، تحت بند "تصريح تاجر" أو "حاجات اقتصادية"، وهو ما يحرم حملة هذه التصاريح جميع حقوقهم العمالية.
يقول الخبير الاقتصادي أسامة نوفل إن الاحتلال أصدر نحو 15 ألف تصريح، منها حوالي 3 آلاف تصريح للتجار، و12 ألف تصريح للعُمال، لافتًا إلى أنه رغم قسوة هذا الوضع، إلا أن هناك أثراً إيجابياً لدخل العُمال على الدخل المحلي، والذي ينعكس على الحركة الاقتصادية في القطاع عبر تعزيز القدرة الشرائية، وتوفير السيولة النقدية لدى المواطنين.
ويعود عمال غزة بمتوسط دخل يومي يقارب 100 دولار أميركي، وفقًا لقول نوفل، مشيرا في حديث مع "العربي الجديد" إلى أن الدخل المتأتي من العمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة مهم، ويعمل على خفض نسبة الفقر والبطالة، التي وصلت إلى نسب غير مسبوقة، فيما "يطمح قطاع غزة لزيادة عدد العُمال إلى 30 ألفاً، لكن الجانب الإسرائيلي يراوغ من خلال خفض النسب وتركها متذبذبة وفقا لأهوائه، وذلك عبر استخدام قرار وقف خروج العمال من حاجز إيرز (بيت حانون) بناء على أي تطورات".
تصاريح العُمال تؤلم الاقتصاد الفلسطيني
ويغلق الاحتلال الإسرائيلي الباب في وجه 12 ألف عامل من غزة وفقًا لأهوائه، عند أي توتر يسود الغلاف، أو أي مُمارسات عدائية ضد قطاع غزة، قاصِدًا بذلك أن يكون ملف تصاريح عُمال غزة اليد التي تؤلم الاقتصاد الفلسطيني.
وقبل الحصار الإسرائيلي على غزة وانتفاضة الأقصى عام 2000، كان إجمالي العاملين داخل الأراضي المحتلة يصل إلى 90 ألف عامل يساهمون بنحو 30% من الاقتصاد المحلي.
ويقول الخبير الاقتصادي عمر شعبان، لـ"العربي الجديد"، إن فتح مجال العمل في إسرائيل يحمل تداعيات ايجابية عديدة، من أهمها أنه يؤشر إلى عوامل الاستقرار، والمصالح المشتركة لجميع الأطراف، بإحداث حالة من تخفيف الضائقة الاقتصادية والتي تشكل أحد أهم عوامل التوتر.
وعلى الرغم من اقتناع شعبان بأن عدد 12 ألف عامل يعتبر رقمًا قليلًا، إلا أنه لا يمكن التقليل من تأثيره، إذ "يصل الدخل اليومي إلى 4 ملايين شيكل، حيث يتراوح متوسط الأجور في إسرائيل من 10 إلى 15 ضعفاً، مقارنة بالأجور التي يتلقاها العُمال في غزة بفعل سوء الأحوال الاقتصادية".
ارتفاع حركة المشتريات في الأسواق
ويمثل الدخل اليومي لعُمال غزة أحد مصادر التدفق النقدي للاقتصاد، وفق قول الخبير الاقتصادي شعبان، الذي يؤكد أنه ومنذ فتح سوق العمل بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة في شهر مايو/ أيار 2021، لوحظ تغيير في النشاط الاقتصادي بشكل إيجابي، وعلى حركة المشتريات في الأسواق، كذلك على الأنشطة الاجتماعية، مثل ارتفاع نسب الزواج.
ويرى شعبان أن حل مشكلة غزة بشكل أساسي يتمثل في فتح مجال العمل في إسرائيل، حيث تندرج كل المُساعدات التي تصل إلى غزة تحت بند الإغاثة، ورفع أعداد العُمال من 30 إلى 50 ألف عامل، بهدف حصول تحسن ملموس في قطاع غزة الذي يعاني من المشاكل السكانية وارتفاع نسب البطالة.
ولفت إلى ضرورة عدم الاكتفاء بتصدير خدمة العمل مقابل المال إلى إسرائيل فقط، وإنما فتح المجال لتصديرها إلى الخليج وتركيا وماليزيا، على اعتبار أنها من الوسائل التي تشكل مصدراً أساسياً للدخل القومي ودعم الموازنة.
بدوره، يبين الخبير الاقتصادي معين رجب أن البطالة والتشغيل من أبرز القضايا التي تمثل تحدياً كبيراً للاقتصاد الفلسطيني، مشيرا إلى أن التوجه إلى سوق العمل داخل الخط الأخضر يعطي قدراً من تحسين الوضع، في ظل البطالة العالية، التي وصلت إلى 50% على الأقل، وتزيد بين الشباب إلى 60% أو أعلى، فيما تجاوزت نسبة الفقر 80%.
فروق كبيرة في الأجور
ويؤكد رجب لـ"العربي الجديد" أن دخول آلاف العمال إلى الجانب الإسرائيلي أحدث تحسنًا نوعيًا، حيث انتقلت شريحة من عِداد المتعطلين إلى المشتغلين، أو من عِداد الذين يحصلون على أجور متدنية إلى أجور مرتفعة، مبينًا أنه يفيد على مستوى أسرة العامل، والمحيطين به، وبالتالي على مستوى الاقتصاد، إذ يندرج دخله في عداد الناتج المحلي الإجمالي، خاصة مع وجود فروق كبيرة في الأجور، بين غزة التي تعاني الفقر، وبين العمل داخل الأراضي المُحتلة.
وعلى الرغم من أهمية العمل داخل إسرائيل في تحسين الوضع التشغيلي، إلا أن رجب يرى أنه ليس علاجًا، وليس كافيًا، ولا يجب الاعتماد عليه كحل جذري، "خاصة أن إسرائيل تتحكم في الأعداد من وقت لآخر، كذلك تُخضع تلك الشريحة إلى المزاج العام، وتجعلهم في حالة أرق وقلق متواصلة، قد تؤثر بالأساس على آلية صرفهم أموالهم، بناء على عدم ثقتهم بمصير العمل في الفترات القادمة، وتقنين الإنفاق، وبالتالي انعكاس ذلك على الاقتصاد الفلسطيني".
ويأمل الخبير الاقتصادي أن يكون هناك توسع في أعداد العُمال، إلا أنه وفي الوقت ذاته يؤكد على أهمية ايجاد حلول جذرية، والاعتماد على وسائل أخرى أكثر ضماناً لتحسين الواقع الاقتصادي تتمثل في الاعتماد على الذات، عبر تشجيع المنتج المحلي، والتحول من بلد مستهلك إلى بلد منتج.
وحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (حكومي)، فإن إجمالي عدد العاملين في القطاعات الحكومية والخاصة والشركات و"أونروا" يقدَّر بنحو 278 ألف عامل في غزة، فيما يقدر عدد العاطلين عن العمل بنحو 270 ألف عامل.
ويعتمد أكثر من 80% من أهالي قطاع غزة على المساعدات الإنسانية، وفقاً للأمم المتحدة، بعد سنوات من الحصار والحروب المتكررة، ويتسبب حصولهم على المساعدات النقدية في تحريك عجلة الاقتصاد بشكل مؤقت، فيما يؤثر تأخرها على إقبال المواطنين، فيعاود البطء مجدداً.