استمع إلى الملخص
- في المخيمات، النساء يطبخن في أفران الطين، والصبيان يجمعون الوقود، بينما يعاني الناس من نقص المياه والوقود، ويعيشون في خيام تذكرهم بسنوات النكبة.
- في بلدة القرارة، نرى آثار الدمار، وفي دير البلح يبحث الناس عن حاجيات عيد الأضحى، بينما تحدث حالة ولادة وسط الحرب والنزوح.
صباح يوم جديد وما هو بجديد، فقد توالت المجازر ضدّ أحياء متفرقة على امتداد قطاع غزّة؛ في غزة وشمالها ومدن ومخيمات جنوب وادي غزة. مررتُ بمخيمات المهجرين -مراكز الإيواء- في حيِّ البصَّة بدير البلح حيث أسكن وعائلتي بعد أن نزحنا في بيت من بيوته، في بيت يقينا حرَّ الشمس الشديد ورطوبة الجو العالية فعلى مد البصر الخيام مختلفة أشكالها ومكوناتها عبارة عن لهب حارق، الناس كباراً وصغاراً لوّحتهم أشعة الشمس وشوهت وجوههم.
مخيم النخيل في شارع النخيل على اليمين وعلى اليسار، وخلف محطة عكيلة مخيم آخر بشارع السلام مخيم أبو عيسى، ومخيمات تنتشر على أيّ أرض يمكن أن تتسع ولو لخيمة واحدة...
سرتُ في الطريق البحري -شارع الرشيد- من دير البلح إلى مواصي خانيونس وصولاً إلى بيت ابن العم الحاج أبو السعيد لتقديم واجب العزاء بوفاة زوجته بعد ظهر هذا اليوم؛ إذ التقينا بجزء من العائلة والأقارب بعد مرور ثمانية أشهر ونيف هي زمن الحرب والنزوح التي ما زالت مستمرة، أينما رميت البصر خيام تصل إلى عشرات الآلاف كأنها غابات غربي شارع الرشيد وشرقه وزحمة الناس والسيارات والعربات التي تجرها الحمير والحُصن، وكلما مررنا بمحطات تحلية المياة نُعاني من أزمة السير؛ إذ أرى الناس بكل أعمارهم يحملون غالونات مياه الشرب، كلٌّ إلى خيمته.
■ ■ ■
نصل إلى بيت الأجر ونُؤدي واجب العزاء، نجلس ساعة زمن ونُودع الأهل عائدين، كانت طريق عودتنا إلى بيت نزوحنا في حيّ البصّة عبر خط سير مسجد القبة مروراً بمنطقة أصداء وأبراج مدينة حمد التي لم تسلم من الدمار على يد آلة الحرب الإسرائيلية طيلة حرب الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي وعبر بلدة القرارة غرباً ليس بمختلف عن الطريق الساحلية، أينما ولّيتَ وجهكَ ثمة عشرات آلاف خيام النازحين وعلى الطرقات خيام الباعة تعرض حاجيات الغذاء والشراب وما يحتاجه النازحون في مخيماتهم التعيسة.
■ ■ ■
يتصاعد دخان من بين الخيام في الأزقة الضيقة هناك من مواقد الطبخ، النسوة يطبخن ما تيسر من غذاء، معلّبات الفاصوليا والبازلاء والفول وغيرها، وهناك أفران صنعوها من الطين يخبزون فيها أرغفة الخبز بعد أن تعجن النسوة الدقيق في هذه الخيمة أو تلك، النسوة ماكينات متحركة في فضاء الخيمة وأمامها، ما بين الطبيخ والغسيل وإن شحّت المياه وزادت عذابات نقل مياه الشُرب والغسيل. أشاهد الصبيان يجمعون ما يقع تحت أيديهم من كرتون وورق وعيدان الشجر وأكياس النايلون ومخلّفات أخرى وكل شيء يصلح أن يكون وقوداً لنار الطهي والخبيز فقد منع الاحتلال إدخال غاز الطهي والوقود، وانتشرت أكوام الحطب والأخشاب المُكسَّرة على جنبات الطرقات تُباع بثلاثة شيكل للكيلوغرام.
■ ■ ■
ترى في المخيم ما يُحزن القلوب ويُبكي العيون، لهيب الخيمة والناس على أبواب فصل الصيف الحار، في داخل هذه الخيمة أو تلك امرأة عجوز وشيخ كبير يرعاهما أبناؤهما وبناتهما وهؤلاء يرعون صغارهم وعموم الأسرة، رب الأسرة يجري في مناكبها ليوفر قوت أسرته والزوجة تهتم بطبيخ وغسيل اليوم ورعاية الأطفال والأولاد، في المخيم كلٌّ في فلكٍ يسبحون. تنتشر أفران الخبيز التي صنعها أصحابها من الطين معجوناً بالتبن فتعطيها شدة وصلابة تتحمّل حرارة نار الحطب... يُذكرنا رغيف الخُبز المخبوز في هذه الأفران بسنوات النكبة الأولى في عام 1948.
■ ■ ■
مررنا بطريق وسطية من بلدة القرارة والتي لم تسلم كما كلّ مدن ومخيمات قطاع غزة من القصف والدمار، المباني المُدمّرة على اليمين والشمال فتُخبرنا حجارتها المدمرة عن أناس قُصفوا هنا فارتقوا شهداء إلى عليين في مجازر دامية ترتكبها دولة الاحتلال الإسرائيلي يومياً. سائق السيارة محمود ابن أخي يُزودنا بمعلومات لديه عما جرى في هذه المنطقة حين اجتاحها جيش الاحتلال وداستها دباباته في الاجتياح البري، آثار الدمار شاخصة للعيان. ندخل شارع البِركة بدير البلح من جهة الجنوب وصولاً إلى دوار البِركة وسط المدينة.
نحن الآن في السويعات الأخيرة لنهار يوم عرفة، فرغم أجواء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزّة إلّا أنّ زحمة السوق بائنة وأكثر ازدحاماً من أيام سابقة، الناس تبحث عما تيسر من حاجيات عيد الأضحى ولعلّها تعيش فرحة العيد لكن فرحته راحتْ غُباراً ودخاناً ودُفنتْ تحت ركام وأنقاض البيوت المقصوفة، ممزوجة بفراق الأحبة وعذابات هذه الحرب الظالمة على شعبنا في قطاع غزة.
نمشي كما السلحفاة في السوق الممتدة على طول شارع الشهداء -الشارع الرئيس- ضجيج العربات وبضع سيارات عالقة والناس مُكدسون على هذه البسطة وتلك هنا وهناك كأني في بحر هائج وصولاً إلى شارع السلام، سوق أخرى تتفرّع من الشارع الرئيس، زحمة في زحمة وصراخ في صراخ وصغار الباعة يُدللون على بضاعتهم...
■ ■ ■
أطلقتْ سيارة الإسعاف العنان لمُكبِّر الصوت وتوقفت مقابل مخيم عكيلة للنازحين خلف محطة عكيلة للبترول فإذا حالة ولادة، امرأة حامل يحملونها على الشيَّالة، تجمهر أطفال المخيم البؤساء وبعض المارة وفي عيونهم سؤال، ما الخطب ولماذا سيارة الإسعاف؟ ما أن بأن الحدث راح كلٌّ إلى غايته وانطلقتُ سيارة الإسعاف مُسرعة إلى المشفى، ولادة طفل في زمن الحرب والنزوح، أطفال كُثر ولِدوا وسط أزيز الرصاص وهدير الطائرات الحربية وهي تقصف بصواريخها المُدمرة هنا وهناك.
يصطف الناس في طابورين على الخبز أمام "مخبز البنا" في شارع عكيلة، الشباب والرجال في الطابور الأيمن والنسوة في الطابور الأيسر، داخل المبنى الكبير ثلاثة أفران أوتوماتيكية تعمل على الغاز والكهرباء من مولّد يعمل على وقود السولار، للأسف الشديد الفوضى سيدة الموقف! إذْ يحصل الواحد على ربطة خبز واحدة بشق الأنفس وهناك من يبيع الخبز في السوق السوداء بثمن أغلى! فوضى غريبة عجيبة!
تأخذني الطريق إلى شارع الرشيد غرباً مشياً على قدمي على موعدٍ مع شمس الأصيل الذاهبة خلف الأفق وخيوط الشمس مستلقية على لجة البحر تلمع كأنها الذهب. البحر صديقي الدائم منذ الطفولة في مُخيمنا الأول، مُخيم الشاطئ، سقى الله مخيمنا يوم كُنا أطفالاً نلعب على رمال شاطئه الذهبي نُداعب أصدافه الجميلة ونسبح في بحره.
■ ■ ■
تلك الذكريات تمحوها اليوم خيام البؤس على شاطئ بحر دير البلح، يسكنها الهاربون من لهيب القصف والدمار في زمن حرب الإبادة. تكاد الخيام تلامس موج البحر أو قُلْ: تغتسل في البحر!
ما إن ترفع مآذن ما تبقى من مساجد في دير البلح أذان المغرب ليوم وقفة عرفة وراحت تُكبّر تكبيرات عيد الأضحى المبارك الذي يُصادف غداً الأحد... عيدنا عودتنا إلى غزة وما بعد بعد غزة شمالاً شمالاً.
إن كُتبتْ لي الحياة فإلى يوم جديد.
السبت 15 حزيران/ يونيو 2024 (اليوم... 253)
* كاتب وسينمائي من غزّة