"غاليري صالح بركات" في بيروت استقبل هذه المرّة مجموعة خاصّة. هي مع ذلك، ليست أيّ مجموعة، وليس صاحبها أيّ هاوٍ وأيّ جامع لوحات. فريد طراد (1901) أحد الثلاثة الذين أسّسوا "جامعة ألبا" المختصّة بالفنون، ومن بينها بالطبع المعمار الذي كان فريد طراد علماً فيه، فقد ترك الرجل في سورية ولبنان آثاراً معمارية هامّة. كان أيضاً نقيباً للمهندسين، وكلُّ هذا يشير إلى أن المعماري البارز كان يُطلّ من زاوية لافتة على الفن اللبناني أواسط القرن الماضي.
لوحات المعرض، الذي اختتم أمس، تتميّز بهذه الخاصية، إنْ في فنّانيها أو المرحلة التي تتشكّل من فنّهم ومسارهم الفنّي، في ما يمكن نسبته إلى ستّينيات القرن الماضي وما حولها. اللوحات هي غالباً غير مؤرَّخة. القليل المؤرَّخ فيها يحيل إلى خمسينيات وستينيات القرن العشرين. رغم أنّنا لا نستطيع بسهولة أن نتعرف إلى مواقيت اللوحات، فإننا لا نزال مع ذلك نشعر بتاريخية مجموعة طراد وكونها، على تعدُّد واختلاف أصحابها، تشير إلى حقبة واحدة، كان فيها ما يجمع الأعمال المعروضة، مع تباينها وتفاوتها.
تجمعها، على الأقل، تلك الصلة الأساسية بالمرجع الغربي، بالوحشية والتعبيرية والتجريد، بل بأسماء كبار هذه المدارس. إنّنا في وقت لا تزال فيه عالمية الفن قائمة، ولا تزال بأسماء معدودة بينها، مرجع الفنّ اللبناني وخلفيته. بل إنّنا نجد في اللوحات غالباً ما يشير إلى مسار أصحابها ومستقبل لوحاتهم، أي إنّنا نعثر هنا على اللوحة الجنينية الأُولى، التي ستتطوّر وتنضج مع الزمن.
جدار بكامله، يحوي على طوله لوحات إيلي كنعان؛ الفنّان الذي زاوج، في مستقبل عمله الذي يظهر عياناً في بداياته، بين التعبيرية والتجريد. في لوحات المعرض نجده يعكف على المنظر الطبيعي وواجهات المدن. يخوض تجربة، بل تجارب متمايزة، في نقل اللوحة من ليلية سائدة إلى نهار مشرق. نعثر على ما يكاد يكون مرحلة زرقاء داكنة، لا نعرف إلى أي درجة تمُتّ إلى مرحلة بيكاسو الزرقاء.
في هذه المرحلة، وما قبلها، نحن أمام لونية طامسة تتداخل عناصرها، وتكاد تغلب، بعضها على بعض، في نوع من الخلطة اللونية الحادّة، التي تُخفي، في تفاعلها، عنفاً صامتاً. أو هي أحياناً تضجّ في لعبة لونية، تكافح، بقدر من القسوة أو التناغم الصامت. لكنّنا لا نلبث أن ننتقل إلى لوحات أُخرى، هي هذه المرّة ذات بناء هندسي أو نسق هندسي. إنّها شجرات، في سماقتها وارتفاعها ذات إيقاعية واضحة، لكنها ترتفع وتتجاور في ما يكاد ضوءاً ساطعاً. الكثافة هنا تعطي مكانها لنوع من الفراغ، والألوان الطامسة والمطموسة تكاد تصبح إشراقاً نهارياً. إنّنا الآن وسط لوحة ستتطوّر، في ما بعد، إلى مزاوجة أكبر بين المنظر وما خلفه، بين التشخيص والتجريد.
لوحات غير مؤرَّخة غالباً، لكن فيها ما يشير إلى حقبة واحدة
ننتقل من لوحة إيلي كنعان إلى جدار عرضي، يحوي ثلاث لوحات لبول غيراغوسيان. لا نخطئ إذا قلنا إنّنا أمام النشأة الأُولى، بل الأصول والبدايات والعناصر الأساسية والأوّلية للوحة غيراغوسيان التي نعرفها. لا يعني ذلك على الإطلاق أّننا أمام فنّ جنيني، إذ إنّنا أمام المسوّدات الأُولى لفن غيراغوسيان. كذلك تفتننا المراحل الزرقاء والزهرية لبيكاسو، إلى درجة أنّنا نؤثرها أحياناً على تكعيبياته، فإنّ الأمر نفسه قد يتكرّر مع بول غيراغوسيان.
الأشكال الوجاهية للأشخاص، في ما يبدو احتفالاً عائلياً، تنقلنا فوراً إلى طوليات لوحات غيراغوسيان في ما يلي، كذلك تفعل الأشكال الطولية الوجاهية أيضاً، التي في إفصاحها الآن ستتحوّل في ما بعد إلى ضربات طولية مطموسة في لوحات المستقبل. نحبّ هذه اللوحات، بل نكتشف فيها أوائل وأسرار أعمال غيراغوسيان.
لوحتان فقط لرفيق شرف لا تمتّان كثيراً، لأوّل وهلة، إلى فنّه المعروف. ليس فيهما لونية شرف ولا تركيبه. لكنّنا، إذا أمعنّا النظر، نجد، من بعيد، حصان شرف الذي سنتميّزه في عنتر وعبلة. كما أنّ أفقية اللوحة الثانية قد تدعونا إلى التفكير في سهول رفيق شرف في ما بعد.
لن أتوقّف كثيراً عند هاروتيان، كما أنّ منحوتات يوسف حويك تردّنا إلى استجلاء رودانيته البارزة. أمّا منحوتات ميشال بصبوص، فتمرّ أمامنا بشعريتها وتشكيلها الطولي، الذي يُذكّر من بعيد بجاكوماتي. يستحق ميشال بصبوص مع ذلك مساحة أكبر، بل ووقفة خاصّة.
* شاعر وروائي من لبنان