استقبلت "قاعة ماتوسيان" في "جامعة هايكازيان" ببيروت، مؤخّراً، معرضَ "لحظات الوجود". ولكنّ عنوانه غير المُعلَن هو "فنّ الشباب السوريّين". وبالفعل، هناك مجموعة من الشُّبّان يعرضون بهدوء وأناة لوحاتهم. لا نشعر بأنّ المعروضات تصرخ في وجوهنا، ما من هجومية، ولا قطع، ولا استفزاز في معرض مُكرّس لجيل جديد.
هناك في الصالة لوحات تتفاوت في حُسنها، وبعضها لذلك مُتقَن وجميل، بل إنّ مستوى المعرض إجمالاً جيّد، لكنّ شبابيّته لا تُشكّل تحدّياً ما. نحن لا نجد مُعادِلاً حقيقياً لهذه الميزة، إلى حدّ أنّنا بالكاد نشعر بها. معرض الشبَّان، هو بهذه الدرجة أو تلك، معرض بين معارض، فنّانون وأفراد ومختلفون، ويُمكننا أن نرى كُلّاً منهم على حِدة، فليس للمعرض أيُّ صفة جامعة.
يُمكننا أن نرى كُلّ فنّانٍ على حِدة، فليس للمعرض أيّ صفة جامعة
هذه المقدّمة قد تُوحي، خطأ، باستصغار المعرض أو تقييم سلبي له. كلُّ ما في الأمر أنّنا لا نجد مُعادلاً لشبابيّته، وهذا أمر قد نُلاحظه في المعارض المُفردة للشبّان، بحيث يصحّ السؤال، أو التساؤل، عن ماهية الفنّ الجديد. وعلى كلّ حال فإنّ غياب المدارس، والانقطاع عن الفنّ الكبير الذي كان من التأثير بحيث نرى بصماته واستمراره في أعمال الجيل الجديد، تركا الفنّ كلّه بدون دلائل واضحة وعلامات بارزة. ربما نحن في بحثنا عن فنّ الشُّبّان، قد نغفل عن أنّ ميزة هذا الفن قد تكون، بالدرجة الأُولى، هذا الانفراد الذي لا يسمح بخصيصة جامعة، والذي يبدو الفنّان فيه بانزوائه غير متّصل إلّا بعناوين فضفاضة، يكاد معها لا يُشبه إلّا نفسه.
في المعرض نقع على أعمال اثني عشر فنّاناً، إذا جاز أن نعتبر لوحة ستيفاني سنوسيان التي حملت بالخطّ العربي عبارة "وأنت متى ستُشرق"، بدون أن نفهم إذا كانت هذه التي خطّتها أرمنية، كما يُستدل من الاسم، لوحة حروفية أو مجرّد دعوة. يُمكننا هنا أن نمُرَّ بعجَلة على لوحتَي يوسف يوسف اللتين حملتا وجوهاً مُستديرة مُكبَّرة للغاية، بدون أن يخدم ذلك سوى تبيان إنشائها الطفولي، وقد يدعونا ذلك إلى أن نتبيّن فيها فنّاً ساذجاً، لولا أنّنا لا نشعر البتّة بأنّنا أمام لوحة، وبأنّ ما نراه، وما يبقى من الرسم ومن الدائرة الكبيرة التي تمثّل وجهاً بلا ملامح، لا يبقى من ذلك سوى الفراغ.
سنمرّ، أيضاً، على محمد خياطة الذي هو، بالعكس، يجتهد لإنشاء لوحة، ويتوسّل لذلك البناء من عناصر مُتشابكة، شخبطات أو مربّعات مرصوفة. لكنّ عمل خياطة يبقى رهن هذه المحاولة بما فيها من اقتراح، ويبقى بدون اكتمال وتظلّ اللوحة مُتوارية في خلفيّته، تظلّ قيد اكتمال لا يتمّ، ولا يصل إلى منتهاه.
سنقف، على نحو آخر، أمام لوحات غادة الكلجي. نحن هنا أمام لوحة تدلّ بنفسها وبتكاملها. إنها مليئة بتبقيعات وخطوط وأشكال مناسبة، في لوحة تبدو رفرافة طيفية لظاهرها، وما يتكوّن وراءها من أطياف مدينية ومعمارية، لوحة كأنّها مقابل تشكيلي لقطعة موسيقية.
ستكون لنا وقفة أُخرى أمام لوحة عزّة أبو ربعية. هنا نجد أنفسنا أمام تجريد خصب، ليس فقط لتكوينه وهندسته، ولكن في هذا التمازج بين الخطوط والتشكيلات وما يستبطنه ويُشير إليه من أشكال جسمانية. الرِّقة المطفية للخطوط والألوان وما يُمكن أن يُشكّل منها تناظُراً إيقاعياً.
سنقف بقدر من الطمأنينة والاستمتاع أمام منحوتَتَي ريتا حسواني. ها هنا فنّ قد يذكّرنا، بدون استنساخ، بالإنكليزي هنري مور. ما تنحته حسواني أوضاعٌ جسدية تؤدّي فيها الاستدارة والالتفاف الذي هو، في تضخّمه الناعم وتداخُله، بل وانطوائه على نفسه وانغماره فيها، يبدو قطعة واحدة متكاملة، كما يُخاطب الناظرين بقدر من الحنان والاعتداد.
رغم كلّ شيء، تبدو مفاجأة المعرض، التي تبقى كلّ ما أمعنّا النظر فيها قادرة على إذهالنا، هي الصور الفوتوغرافية لسارة قنطار. هذه الصور لا نكاد نصدّق أنّها حقّاً صنيع الكاميرا، أو أنّها مجرّد صور، إذ حين نتأمّل التكاوين الصخرية التي تكاد تُغني، وما يتولّد منها وبعدها من أشكال مشعّثة شعيرية وخيطية، وما تُسفر عنه من أنوثة مطويّة داخل التكوين، وما يجمع كلّ هذه العناصر في تناغم وإسلاس واستواء فاتن غنيّ خصيب بالتفافات وتوازيات وجُزئيات خلّاقة. تبقى صور قنطار تحيّرنا، إذ لا نعرف مصادرها وكيفية تكوُّنها، فنحن نستكثرها على كاميرا، ونستكثرها على الواقع نفسه. الأرجح أنّ ما أمام أعيننا لا يُصدّق ولا نهاية له.
* شاعر وروائي من لبنان