زكريا محمّد.. النصُّ المطلَق

30 يوليو 2023
زكريا محمد
+ الخط -

جديد زكريا محمّد هو في مجموعاته الثلاث الأخيرة "تمرة الغراب" و"زرلوند" و"علندى". لن نحاول أن نقيس هذا الجديد على ماض شعري. سنبدأ منه فحسب، فهو كذلك جديد، بالقياس على الشعر العربي الموسوم بالحداثة.

يفاجئنا زكريا في أعماله هذه في كلّ شيء تقريباً. نصّه فيها لا يُقاس على أيّ مثال نعرفه في شعرنا. إنه بالتأكيد جرأة على الشعر، إلى الحد الذي يجعلنا فوق الشعر أو دونه. لا يهم الحُكم، فالواضح أننا أمام تجريب يصل إلى درجة الإنهاك، وربما الاستنفاد. الشعر هنا مبذول إلى درجة لا نستطيع بسهولة أن نلحقها، وهو في ذلك لا يغفل حلقة، لا يغفل إمكانية، ولا يغفل محاولة أو كشفاً أو مزاوجة أو فحصاً أو سبراً، إلا ويزاولها.

الشعر هكذا يتواصل، ويتمدد، ويتوالد، ويتضاعف، ويتمازج إلى حيث ينقلنا من دهشة إلى دهشة، إلى حيث تأخذنا المحاولات، طبقة على طبقة، وطبقة وراء طبقة، تأخذنا فنبقى ذاهلين في مسارها، ولا نقدر أن نخرج من التركيب، أو المسار، أو عملية التوليد والبناء والاستطراد والتوسع. لا يسعنا أن نفارق هذه العملية، أو نعلو عليها، أو نستقل عنها، أو نقابلها بتأويل مواز، أو استخلاص من أي نوع.

ليست ترجيعاً للغة قائمة ولا مجرّد تغريب لها

لا يضع زكريا عناوين لمقطعاته، وهي في دواوينه مقطعات دون أن يخطر لنا أنها نص واحد، وأنها تبدأ وتنتهي، أي أن لها بداية ونهاية ومسافة ومساراً. لن يخطر لنا أنّها نص واحد، لكن لن نفترض أنها نثرات، أو فتات، أو كسر، أو ذرات. لن نضع حدوداً لها في إفرادها أو مجموعها. إذا لم تكن نصاً واحداً، فلأنها تنتمي إلى ما يشبه أن يكون نصاً مطلقاً، أي ما هو النص في إطلاقه، النص المفارق أو النص الغائب، أو النص الأصلي أو الأول.

سيكون لنا عند ذلك، أن نتكلم عن الشعر كلّه كنص، لن يكون الديوان سوى تجلّ له، سوى واحد من إشراقاته. الديوان الواحد هكذا يولد في مخاض التحوّل الشعري، يولد داخل العملية الشعرية التي هو ليس سوى أحد تفاعلاتها، سوى دورة لها، وولادة منها.

الشعر هنا مفتوح عائم، وهو بذلك يتساقط مقطعاً بعد مقطع. الشعر هكذا هو الموضوع، وإذا كان الأمر كذلك فإن ما يفعله زكريا، قبل أي شيء، هو خلق مصاف للشعر، ورفع أشياء متفرقة إلى هذا المصاف، أو رفع أشياء دونه، وربما فوقه، إليه.

هكذا نجد غناءً، لكنه غير الغناء. إنه يزاوج أشياء لا تجتمع إلا في أبعد نقطة، بل في لامكان تقريباً. تجتمع في حدود تصل إلى الهذيان، في حدود لا يملك هذا الجمع معها أي منطق. الشعر هكذا يتسع لإرسالات إلى اقصى المدى، لكنه يتسع أيضاً لما يمتّ إلى نثر خالص، يتسع لمحاكمات منطقية، وأحكام من كل نوع، وتفلسف خالص، وسياسة مجرّدة، وحكايا وعبر وحكم ومقالات.

هذه جميعها لا تعود نفسها، بل هي تماماً خارج سياقها. إنها هكذا في مهب تحول وانتقال إلى طبيعة أُخرى، بل إلى موسيقى وإيقاع آخرين. إنها هنا لتستوي في مدار شديد البعد، شديد التغريب، بل التغريب ليس فقط صفته بقدر ما هو أيضاً موضوعه وأفقه.

إنه الشعر وقد استقبل موادَ من كل ناحية، الشعر وقد انفتح للغة كلّها، وبات بحد ذاته لغة فحسب. بل بات بهذا المعنى شيئاً أكثر من اللغة، إنه ما يمكن أن نسميه فوق اللغة، ما يمكن أن يكون هكذا لغة في اللغة. هكذا يمكن أن تكون اللغة بكاملها مجال الشعر، يمكن أن نعتبر اللغة لا مجالاً فحسب، ولكن مرادفاً للشعر.

نص زكريا محمد هو أيضاً، ولو من ناحية أُخرى، مصاف آخر للغة. الأشياء هنا لا تعود مسمياتها واصطلاحها فحسب، إنها في سبيلها إلى خلق أبجدية جديدة. الجِدّة هنا في ما فوق اللغة، الشعر هكذا ليس فقط لعباً في اللغة، إنه بالدرجة نفسها مقابل لها. إنه، في إعلانها وفي تصعيدها، يتوصل الى أن يكون أيضاً قراءة ثانية.

نحن هكذا حين نقرأ نصّاً نتعلم أيضاً لغة جديدة، تبقى غرابتها وازدواجاتها وسياقاتها، وحتى مصطلحها، غريبة علينا، أجنبية تقريباً. إنها لا تعود إلى أصل ما، أو لا تصدر عن أصل ما، ليست ترجيعاً للغة قائمة، ولا مجرد تغريب لها، إنها انسلاخ عنها وبناء فوقها. نحن هنا في ما فوق اللغة.

هذا ليس جديداً على الشعر. سنتذكر هنا رامبو ولوتريامو، بل سنتذكر شاعراً أقرب هو رينيه شار، الذي لا أعرف إذا كان محمد قرأه أو انفعل به، لكن قصائد زكريا تذكّر على نحو ما به. إنه صنوه في محاولة أن يخلق في لغة أًخرى ما يعادل تلك القراءة، قراءة يبدو الغناء، وربما الشعر أيضاً، أحد فصولها. حيث الكلام المقطوع من كل ناحية، وعن كل ناحية، يستوي إيقاعاً خاصاً، بل أبجدية خاصة تتفاوت فصولها، تنتقل من الغناء الأسفل إلى الغناء الأعلى، مما يشبه النثر إلى تصعيد فوق الغناء وفوق الشعر.

أمّا لأي درجة يبدو اقتراح زكريا محمد مقبولاً في اللغة العربية، فذلك يدعو إلى أن ننظر إلى أن يدور هذا الشعر في العربية، وإلى أن ينخرط فيها من بعيد أو قريب، كقراءة أُخرى، كأبجدية ثانية.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون