استمع إلى الملخص
- **حياة النزوح والتشرد:** تعيش الكاتبة وأهل غزة في حالة نزوح مستمر، حيث يضطرون للانتقال بحثًا عن الأمان، ويعيشون في ظروف صعبة، مما يعكس معاناة النزوح بشكل مؤثر.
- **التحديات اليومية:** يواجه أهل غزة تحديات يومية مثل نقص غاز الطهي والمياه الحلوة، مما يضطرهم للبحث عن بدائل، ويحتفلون بالحصول على المياه، مما يعكس تأثير الحرب والنزوح على حياتهم.
تخصّص "العربي الجديد" صفحة "نصوص الحياة والحرب من غزّة" لشعراء وروائيين ومسرحيين وفنانين من قطاع غزة، كي يعبّروا عن تفاصيل الحياة اليومية تحت القصف الإسرائيلي.
قرابة الساعة السادسة والنصف؛ صوت ضجيج وتصفيق وتهليل.
اتجهت للنافذة على عجل، الكلّ يردّد: هدنة.. هدنة. الأطفال يصفّقون، يركضون، ويرقصون. وصوت إطلاق للنار في الهواء ابتهاجاً والنساء يزغرطن، يتعانقن، مهنين بعضهن بالسلامة. أترانا نجونا؟ وسنحصد السلام والسلامة بعد أشهرٍ من الحرب والموت.
باسل ابني ذو السبعة أعوام، يركض نحوي ويعانقني، وقد تورّدت وجنتاه فرحاً. قال لي: "يعني هنرجع على غزة يا ماما، وهنشوف بابا. هرجع عالنادي ألعب كورة"، وتابع يسرد ماذا سيفعل عندما يعود بحماس كبير. باسل لا يعي كثيراً مجريات الحرب، لكنه عاش فرح اللحظة كاملاً.
الناس تتمسّك بخيط أمل، علّها تنتهي الحرب وتنتهي رحلة العذاب الطويلة..
وقد كان ما خفت حدوثه، إذ بدأت أخبار الرفض الإسرائيلي لعقد الصفقة بالانتشار. انكمش كلّ شيء. انطفأ الفرح، تجلّت الخيبة، وانخفض ضجيج المدينة. ضقت ذرعاً لعجزي وقلّة حيلتي وانكفأت على نفسي منهكة باهتة، ورحتُ أبكى طويلاً، ذكريات أشتاق إليها أريدها ليحتفل قلبي بها، ذكرياتي تلك كانت بداياتي التي أحبّ، وكانت خطواتي الواثقة للحياة ولأجل الحياة.
(أريد منزلي ويوماً قديماً)، هذا ما اختصرته عبر صفحتي على فيسبوك.
(المنزل)، واليوم بعد أكثر من نصف عام من حياة التشرّد والنزوح، غدا بمرادفات جديدة -النازح يحفظها جيداً- فالمنزل هو العائلة، الأنس، الدفء، الحرية، الألفة، الأمان، الهدوء، الراحة، الفرح، الاطمئنان. لن أثقل الوجع على نفسي أكثر، فغول القتل هذا لم يملّ بعد ولم يتعب؟!
أما عن الحرب، فستنتهي عندما ينجو الأحياء ويُدفن الشهداء ويعود الأحبة، ونخطو على عتبات منزلنا الراكدة على طرقات المدينة، حينها سنختار زوايانا بعناية لنبكي.. أقنعت نفسي بعد طول تفكير، بأن الحرب مستمرة لعدّة أشهر، وصرتُ أضع احتمالات أكثر قسوة لأزيد من قدرتي على احتمالها. القادم مؤلمٌ ويتطلّب مني الصبر ورباطة الجأش، خاصة مع تلويحهم باقتحام رفح، وهذا يعني نزوحاً آخر خلال ظروف أكثر صعوبة.
استيقظنا صباحاً على خبر اجتياح معبر رفح، ورفع العلم الإسرائيلي في باحاته، وعدتُ أرى الشاحنات تنقل مفروشات النازحين لمنطقة مواصي، بعد أن أعلن الجيش أنها منطقة خضراء.
■ ■ ■
رائحة الخوف هذه مألوفة عندي، جزع الناس هذا رأيته في السابق على وجوه آخرين، وفي أماكن أخرى. في رفح، الليلة صوت الزنانة أعلى من المعتاد، إنها تشبه ليالي قاسية عايشتها في غزة وخانيونس. الأيام تكرّر بعضها. ليس هذا فقط، لقد بتُ أكثر معرفة بلحظات الانقضاض الأولى على المدينة، وكيف يبثّ القاتل سمّه في سمائها وبحرها وبرّها دفعة واحدة. والمدينة تنتصب شامخة أمام ما أُعدّ لها من قتْل ودمار على يد مجرم طلق.
غريبة مساءاتنا. ليلة أمس، كان رنين ضحك الأطفال وتصفيقهم باقتراب الهدنة يثلج روحي، لقد احتفظت بأصواتهم في قلبي، ووضعت كفّي على صدري، لتظلّ الصورة طويلاً بعد أكثر من نصف عام من التعب، والليلة أغفو على وسادتي ناقمة على كلّ شيء، أجرّ أذيال الأسى والخيبة، بعد إعلان الجيش عن بدء اقتحام المدينة، ورفضه مقترح الهدنة.
نعم. باغتنا الحزن، وقد افترشنا بسطاً حمراء لاستقبال السعادة. أذكر أنني في بداية الحرب أخبرت أحدهم بأن أصعب ما في الحرب هو المجهول فيها. ماذا ينتظرنا؟ أين سنحتمي؟ كم سنحتمل؟ وهل سننجو؟
في اليوم التالي، وبعد مدّ وجزر وتفكير، قرّرت أن أكون أكثر صلابة وتماسكاً لأجلي ولأجل أطفالي الثلاثة. ردّدت كثيراً عبارة "ما أصابك ما كان ليخطئك"، لأروّض نفسي وأهدئها. اتجهتُ للمسير على طريق البحر المطلّ على المنزل الذي أنزح فيه، لآخذ قسطاً من الراحة والهدوء، وما إن خرجت حتى سمعت ضجيج النازحين، وأبصرت تزاحمهم وسيرهم بأشيائهم نحو اللاشيء. عشرات العائلات تحمل متاعها على عربات الأحصنة والشاحنات والسيارات، على طريق البحر، تنزح لتحتمي من جحيم الحرب، بعد أن قذفت طائرات العدو قصاصات تدعوهم لترك منازلهم والتوجه لمواصي/ خانيونس.
نزوحٌ جماعي متكرّر وحالة من التوهان والحسرة تراها بوضوح على قسمات الوجوه. اللافت أن النازحين كانوا يحملون أكبر قدر ممكن من متاعهم. لقد غدوا على دراية بأن مصير المنزل، إن لم يكن القصف والحرق، فهو النهب والتخريب. لذا النزوح بأكبر قدر ممكن من أثاثك وأدواتك وأجهزتك المنزلية، أصبح درساً تعلمه الجميع. كما أصبح لألواح الطاقة الشمسية حاجة ملحة ينقلها الناس معهم، أينما كانوا لما لها من ضرورة في توفير الكهرباء لشحن بطاريات الإنارة والهواتف النقالة، كما أنها أصبحت مصدر رزق للكثيرين، حيث يقدمون خدمة الشحن مقابل المال، بعد انقطاع للتيار الكهربائي لما يزيد عن ثمانية أشهر.. تابعتُ سيري محاولة أن أصرف بصري عن لوحة البؤس هذه.
غدا النازحون على دراية بأن مصير المنزل، إن لم يكن القصف والحرق، فهو النهب والتخريب
لا أدري كيف مرّت الدراجة الهوائية أمامي. كان يقودها شاب عشريني نحيل القامة بقسمات وجه شاحبة باهتة جداً، يُجلس زوجته على هيكل الدراجة الأمامي، وطفليه في الصندوق الخلفي، يغالبهم النعاس وقد توردت وجنتاهما من حرارة الشمس، وبقجة صغيرة تحمل حاجياتهم، تتدلى من على المقود الأمامي، تمضي مترنحة نحو الشمال.
اختصر مرورهم حكاية نزوحنا كلّها. بقيتُ متسمرة في مكاني لبعض الوقت. بعد أن ابتلع الطريق طرف عباءة الأمّ السوداء المتطاير من على يسار الدراجة. صورة ستحصد جوائز عالمية لو التقطتها عدسة كاميرا مصوّر حذّق في المكان.
ابتسمتُ بسخرية، فصور مآسينا جابت صحف العالم والمواقع والمنصّات، ولم توقف سعير الموت هنا، وكأن عيون البشر اعتادت صور قتلنا ونزوحنا وجوعنا وبردنا ونحيب افتراقنا، وإن هانت مشاهد أوجاعنا، فلا داعي لأن نشاركها أحداً. ثم ما فائدة الصور والحقائق إن لم تغير الواقع!
في فيتنام أوقفت الصورة الحرب، أما في حالتنا فلم تنجح لأن العالم يريد ذلك. خرجتُ لأستنشق هواء عليلاً، وأفكر بإيجابية. يجب أن أوقف التفكير بكل هذا؟! توقفت أمام البحر وصورة العائلة لا تزال تجوب عقلي رغماً عني، غالبتها، ورحت أدندن أغنية "حبّ يساري" لزياد الرحباني:
"بلا ولا شي بحبك.. ولا في بهالحب مصاري، ولا ممكن في ليرات، ولا ممكن في أراضي، ولا في مجوهرات. بلا ولا شي بحب".
■ ■ ■
غاز الطهي بات شحيحاً. والدي يقول إن أنبوبة الغاز أصبحت بسعر 1200 شيكل، وإن وجدت، وهذا يقدر بأضعاف أضعاف سعرها الطبيعي. هذه ليست المرة الأولى التي ينقطع فيها، غاز الطهي أزمة مستمرة متكرّرة تشتدّ وتنخفض من حين إلى آخر، يتجاوزها أغلب الناس بالطهي على النار التي يشعلونها من إيقاد الحطب الذي ارتفع سعره أيضاً..
اقترحت أمي أن نشتري أقراص الفلافل. إفطار الفلافل الجاهزة يقلّل استهلاك الغاز، لذا هو خيارُ جيد في مثل هذه الظروف. بائع الفلافل هذا هو نازح من أحد أقربائنا، كان في غزة ينجّد الكنب، ويصنع أثاث الموبيليا، في سوق الشيخ رضوان، لكنه بعد النزوح اتجه لبيع الفلافل في المخيم، ونالت الفلافل التي يقليها على عجل استحسان الكثيرين، حتى بدأ الناس بالاصطفاف بطابور طويل أمام بسطته ليشتروها منه. وصارت له أغنية يرددها له أطفال المخيم: "أبو عوني يا مغوار يا أمير الفلافل"..
المياه الحلوة (مياه الشرب)، الخبز، الغاز، المياه المالحة (مياه للاستخدامات المنزلية)، أكثر ما نسعى لتأمينه خلال نزوحنا الثامن بعدما استأجرنا شقة في منطقة مواصي رفح، من مزارع بسيط يدعى أبو إبراهيم زعرب؛ رجل أربعيني، ريفي، أب لثلاث بنات وأربعة أولاد. أثارت إعجابي طريقة حياته الريفية البسيطة الهادئة، بعيداً عن ضوضاء المدينة قبالة شاطئ البحر، يقتات من حصاد أرضه، جلّ ما يحتاج من خضراوات وفواكه، غير مكترث بابتعاد مسكنه عن الخدمات كالسوق، والمدارس، والمراكز الصحية والمحال التجارية..
بتُّ أكثر معرفة بلحظات الانقضاض الأولى على المدينة، وكيف يبثّ القاتل سمّه دفعة واحدة
منطقته الهادئة اليوم باتت تأوي مئات الآلاف من النازحين، وافتتح قبل أيام أول مشفى فيه. نعم: المشفى الأميركي! تعرّفت أمي على أم محمد، وهي امرأة "معدلة" تمتلك صوتاً جميلاً بلكنة جذابة، تخبز الخبز لنساء المخيم على فرن الطينة الذي بناه لها ابناها اليافعان. نرسل لها العجين، بعد أن نرصه فوق بعضه على صينية "ستالس" ليعود لنا خبزاً شهياً. في الآونة الأخيرة، أصبحنا نرسل لها أكياس الطحين مع الخميرة والملح، وتقوم بإرسال الخبز جاهزاً. في عشاء إحدى الأمسيات، اتفقت العائلة أن خبزها أطيب ما تذوقنا من الخبز.
أتابع وصول سيارة المياه الحلوة (مياه الشرب) من النافذة، وغالباً ما يدلني ضجيج الناس على وصولها.
أنادي باسل ابني بشيء من الحماس "اجت يلا".. يركض مع إخوتي حاملين براميل المياه الفارغة، أمام أحد خراطيم السيارة الخمسة المتدلية، من جوانب خزانها. يتجمهر حولها العشرات من الأطفال والنساء والرجال والفتيان الكل يحمل برميله أو قربته أو أي آنية مختلفة جلبها معه، ويسعى لأن يؤّمن المياه الحلوة (مياه الشرب) لما يكفيه لليوم التالي، فالسيارة لا تزور منطقتنا إلا مرة واحدة في اليوم، والكمية لا تكفي لسدّ حاجات الجميع.
ذات مرة، تأخرت السيارة عن موعد حضورها المعتاد، وظلت النساء والأطفال والرجال؛ الكل يمرجح برميل مياهه الفارغة بين يديه، يمشون بعشوائية تتلاقى نظراتهم الحائرة والقلقة بين الفينة والأخرى. شارفت الشمس على المغيب، وصار الكل يفكر بضجر وخوف، كيف سيؤمن المياه إن لم تأت. مرّ الوقت بطيئاً، والكل ينتظر حتى بزغت سيارة المياه كقرص الشمس من نهاية الطريق. صوت التصفير والتكبير والتهليل ملأ المكان. لم يكن حضورها عادياً، لقد زفّت كعروس تماماً. كان منظر الناس مهيباً، وهم يتمايلون حولها يحتفلون بحضورها، والأطفال يتعلقون بحواف السيارة. ضحكتُ وبكيت في الوقت نفسه. كيف تقلبت الوجوه وكيف كساها الفرح والبهجة بعد ساعات من القلق والانتظار. أحزنني حالنا التي تبدلت وكيف صرنا نحتفي بما يفترض أنه طبيعي، وكيف وصل بنا الاحتياج لأن نعيش كل هذا!
أما عن انقطاع المياه المالحة، فهي المشكلة الأكبر بالنسبة لنا، فهو انقطاع مستمر لفترات طويلة، يدعونا للاجتهاد في الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة، وذلك للغسيل والجلي والتنظيف والاستحمام. كل هذا بات حاجة ملحة، حاولنا تجاوزها وذلك بشراء المياه من العربات المتجولة، إن وجدت في أيام انقطاعها.
يا لحياة النزوح هذه.
* كاتبة من غزّة