النزوح ليس سياحة في الوطن

11 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -
اظهر الملخص
- في عام 1996، بعد منعي من العودة إلى غزة والضفة الغربية، التقيت بالرئيس ياسر عرفات الذي وعدني بإعادتي، وتمكنت من العودة بتصريح خاص، وبدأت برنامجاً رياضياً وكتابة.
- في 7 أكتوبر 2023، أثناء السباحة، سمعنا قذائف صاروخية، وعند العودة للمنزل، تابعنا الأخبار وتحضرنا لأي طارئ.
- مع تصاعد التوتر، قررنا النزوح إلى جنوب وادي غزة بعد تحذيرات العدو، وغادرنا المنزل مع ابني محمد وعائلته، وسط قلق من المستقبل.

عدت إلى أرض الوطن في العام 1996، إذ كنت من ضمن مجموعة من الأشخاص الممنوعين من العودة إلى قطاع غزّة والضفة الغربية بعد اتفاق أوسلو. تقابلتُ مع الرئيس الراحل ياسر عرفات في العام ذاته، ووعدني أن يعيدني إلى الوطن، وبالفعل أرسل في طلبي بصفتي عضواً في "المجلس الوطني الفلسطيني"، وفعلاً توجّهت عبر الأردن إلى جسر الملك حسين  إلا أن الجيش الإسرائيلي لم يسمح لي بالدخول، وأبعدت مرّة أخرى إلى الأردن حيث مكثت اثنين وأربعون يوماً. في المحاولة الأخيرة التي نجحت، دخلتُ زائراً بتصريح خاص بذلك. هكذا دخلتُ أرض الوطن.

منذ عودتي وضعت لنفسي برنامجاً رياضياً حتى لا يغلبني المرض، إذ إنني عانيت كثيراً وأجريت عملية قسطرة مبكراً، ويتوزع برنامجي الرياضي بين المشي والسباحة. مثلاً؛ في أشهر الشتاء، أمارس رياضة المشي، وقد تصل ساعات المشي إلى أكثر من ثلاث ساعات، وقد أزيدها إلى أكثر من ذلك، بعد أن أصبتُ بمرض السكر. أما خلال أشهر الصيف، فأبدأ من شهر يونيو/ حزيران، فأمارس رياضة السباحة حتى أول شهر ديسمبر/ كانون الأول، وهكذا كانت تمضي أيامي، بالإضافة إلى هوايتي الرئيسية ألا وهي الكتابة.

في يوم السبت السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2023، كعادتي في كلّ يوم، نهضتُ باكراً وأديّت صلاة الفجر، ثم ارتديت ملابس البحر، وخرجت كي ألتقي بصديقي هشام، منزله يبعد عن مكان سكني ما يقرب المائة متر. لقد اعتدت أن أعرّج عليه كلّ صباح وأصطحبه ونذهب سوياً إلى البحر. في ذلك الصباح، عرّجت عليه، وما أن خرج ذهبنا باتجاه البحر، الذي لا يبعد سوى أمتارٍ قليلة، لا تزيد عن المائة والخمسين متراً، وما أن خطونا بضع خطوات وإذا بصوتٍ ضخمٍ يخترق صمت المكان، أخذتُ أنظر إلى السماء فإذا بعددٍ كبيرٍ من القذائف الصاروخية تنطلق متجهة إلى أراضينا المحتلّة، كانت السماء قد امتلأت بالدخانِ الأبيض، كانت كمية القذائف الصاروخية كبيرةً، فوقفتُ أنا وصديقي هشام ونظرنا إلى بعضنا البعض، ثم أخذ كلّ منا يسأل: ماذا حدث؟ لقد نمنا، ولم يكن هناك أيّ توتّر، أو أيّ شيء يوحي بأي تصعيدٍ محتمل. 

لم نحمل معنا أيّ شيء، وخرجنا بالملابس التي نرتديها وبدأت رحلة النزوح إلى المجهول

سيطر علينا التردّد، وقبل أن نتخذ قرارنا، إما العودة إلى منازلنا أو مواصلة طريقنا صوب البحر، مرّت بنا بعض الحافلات التي تنقلُ الطلاب إلى مدارسهم فأخذنا نستفسر منهم، فأبلغونا بأن المدارس أغلقت بناءً على أوامر وزارة التربية والتعليم. نظرنا إلى بعضنا البعض، وقد استقرّ رأينا على العودة إلى منازلنا، صوت القذائف الصاروخية كان ما زال يملأ السماء، وقبل أن نغادر مكاننا، مرّ أمير المسجد فأخذ يسألنا ماذا حدث، فأخبرناه بأنه هو الذي عليه أن يخبرنا بما يحدث، لم يكترث لنا وحرّك سيارته مسرعاً إلى منزله. 

أسرعنا الخطو حتى نعود إلى منازلنا، كي نستمع إلى الأخبار، كنت متأكداً أن العدو سوف يكون انتقامه رهيباً. هشام أسرع إلى منزله القريب من مكان وقوفنا، وأنا غذيتُ خطواتي حتى أصل إلى منزلي، وما أن دخلتُ إلى البناية التي أسكن بها، قابلتُ بعض الجيران الذين أخذوا يسألوني عما يحدث. نظرتُ إليهم نظرةً شاردة، وأخبرتهم بأني لا أعلم شيئاً، كان القلقُ يسيطر عليهم، فكمية القذائف الصاروخية المطلقة كانت كبيرة جداً وغير مسبوقة، فيما سيكون ردّ العدو رداً غير متوقع. وصلت إلى شقتي فأسرعت إلى جهاز التلفاز، فوجدت زوجتي وابني محمد يتابعان الأخبار، وكانت تبثّ مباشرة من مكان الحدث. في الوهلة الأولى، شعرتُ بالفخر من العمل الذي قام به المقاومون، ولكن بعد قليل أفقتُ من سكرة النصر، فأخذ عقلي يتساءل ويطرح أسئلةً أكثر واقعية.

جلستُ أتابع الأخبار، تارةً عبر التلفاز، وتارة عبر هاتفي النقال. ومع تزاحم الأفكار، ومع الخوف من ردّ العدو، طلبتُ من زوجتي أن تضع لي ركوة قهوة على الغاز، وأخرجتُ علبة سجائري، وأخذتُ أنفث دخانها في فضاء المجلس، وأنا أتابع تصاعد ذلك الدخان، وهو يتصاعد في حلقاتٍ تشبه قلقي. 

وتحسباً من أن يقوم العدو بقصف المنطقة، طلبتُ من ابني محمد أن يقوم بفتح نوافذ المنزل حتى لا يتكسّر زجاج الشقة. بدأنا بجمع المستندات المهمّة ووضعها في حقيبةٍ يسهل حملها، وذلك من خبرتنا بسلوك العدو الذي يتعمّد القصف ليلاً، حتى يزيد من كمية الرعب التي يُحدثها القصف. مع المساء، تناولنا بعض السندويشات التي أعدّتها زوجتي على عجلٍ، كنتُ أفكر في ابني محمد وأطفاله، فأين عمر الذي لم يتجاوز الأربعة أعوام، وأين ابنه الآخر الذي يحمل اسمي، والذي لم يتجاوز الستة أشهر، وفكرتُ في الأقارب وفي الجيران.

حاولنا أن نسرق بعض اللحظات كي نغفو، ابني وزوجته اهتمّوا بأطفالهما وذهبا بهم كي يناموا قليلاً، وزوجتي من شدّة الارهاق سرقتْ بعض اللحظات وغطّت في النوم. أما أنا، فتابعتُ جلوسي في صالون المنزل أرتشف قهوتي، وأدخّن سجائري، ولكن على ما أعتقد بأنني استطعت أن أسرق بعض الإغفاءات. كان ما يزيد قلقي هو تأخّر ردّ العدو الذي تعوّدنا بأنه بعد إطلاق القذائف الصاروخية يسارع بالرد، ولكن هذه المرّة لم يردّ، ولذلك ثارت في نفسي شكوكٌ كثيرة من أن ردّ العدو سوف يكون موجعاً، ويتعدى أثر الردود السابقة. 

أفقنا جميعاً، وأخذنا ننظر إلى التلفاز، رغم أن الكهرباء مقطوعةٌ عن المدينة منذ مدّة، ولكن البناية التي أسكنُ بها يوجد فيها كهرباء يتمّ توليدها عبر شاشات الطاقة الشمسية.

تابعنا محطّة "الجزيرة" التي لا تزال تبثّ مناظر الهجوم، وكذلك تبثّ تحليلات مختلفة، أتفق مع بعضها وأختلف مع بعضها الآخر. استمررت في متابعة الأخبار تنقّلاً من محطةٍ إلى أخرى، ثم خرجتُ أتفقد الجيران، فمعظمهم كان متوجّساً من القادم، وقبل أن يحلّ المساء دوّى انفجار قوي، هزّ المنطقة فتطاير زجاج نافذة غرفة نومي، بالرغم من اتخاذ الإجراءات المناسبة، ولكن شدّة الانفجار كانت عنيفةً جداً، تيقنّاً بأن العدو يمارس هوايته في قتلنا. كان الانفجار لا يبعد عن المبنى الذي أقيم فيه سوى عشرات الأمتار، الخوف بدأ يتسرّب إلى نفوس الجميع، نمنا تلك الليلة على وقع أصوات الانفجارات، وتراقص المباني من شدّة القصف الذي توالى دون هدوء. وفي اليوم التالي، أخذ العدو يبثّ تحذيراته بأن على سكان مدينة غزّة وشمالها النزوح إلى جنوب وادي غزة، تحت التحذير بأن المنطقة هي منطقة عمليات عسكرية خطيرة، خرجتُ من المنزل لأتشاور مع سكان البناية الذين انقسموا على أنفسهم فمنهم من يريد أن يُخلي خوفاً على الأطفال والنساء، ومنهم من تشبّث بالبقاء في البناية ولحظتها دوّى انفجار هائل ضرب العديد من البنايات منها ثلاث بنايات تتبع عائلة أنسبائي، ثم تواردت إلينا أنباءُ بأن الصليب الأحمر حضر إلى شركة (ك)، التي تمتلك العديد من الحافلات التي تنقل طلاب المدارس، وأبلغ موظفيها أن يخلوا مكانهم، وأن يأخذوا ما أمكنهم من السكان لأن العدو جاد في تهديده. ازداد قلقنا جميعاً وكبُر. 

كان ابني محمد وعائلته يستعدون للتوجه إلى الجنوب، وأخبرته بأنّي سوف أمكث أنا ووالدته في الشقة، رفض ذلك وطلب منا أن نغادر نحن، لأننا كبار في السن ونحتاج إلى من يرعانا ويقوم على خدمتنا، تجادلتُ معه ثم غادر وذهب إلى أحد أصدقائنا واستعار منه سيارة، ثم ذهب إلى بيت أهل زوجته وأتى بهم، لأنهم قرّروا النزوح إلى جنوب الوادي، حضروا جميعاً وبدأ ابني يضغط علي، هو وحماه، من أجل اقناعي بالنزوح إلى جنوب الوادي. أخذتُ أنظر إلى زوجتي مستنجداً بها، ولكنها كانت مع رأي ابنها، نسيبي بدأ يقنعني بالذهاب إذ إنه يمتلك بناية ليست جاهزة، ولكن علينا أن نمضي تلك الليلة بها، لأننا كنا نتوقع أن خروجنا هو خروج مؤقت، ولن يستمر لأكثر من يوم أو يومين، وأنه يعتبرها نوعا من السياحة في الوطن، تحت ذلك الضغط ومحبةً لابني وزوجته ووالدها قررنا المغادرة. لم نحمل معنا أيّ شيء، وخرجنا بالملابس التي نرتديها وبدأت رحلة النزوح إلى المجهول.


* روائي من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون