أليس في غزة

08 يوليو 2024
رسم للفنان عماد حجاج
+ الخط -
اظهر الملخص
- الكاتب يعيش في مخيم إيواء وسط الحرب، حيث تتزاحم الأفكار المتناقضة في ذهنه ويشعر باليأس من الإنسانية.
- يحاول الهروب من واقعه عبر الأعمال اليدوية ويجد بعض العزاء في تفاصيل حياته اليومية، مثل وجه طفله وضحكة ابنته المتخيلة سارة.
- زوجته مها تجد صعوبة في تدريس سارة بسبب الألم من تاريخ فلسطين، وفي النهاية تختفي سارة، تاركة الكاتب في حالة من الحزن والضياع.

يُوشِكُ الليل أن ينقضَّ على المخيم، يدنو النهار من موتٍ محتم، تتزاحم الأشياء في مخيّلتي، الموتُ والحياة، الحبُّ والبغض، الوجود ذاته، ليس في كينونته-أفكر- بل في جدواه، أيّ فراغ وصمتٍ يغرق العالم، الضمير الإنساني، ضمير الأنا، كلّ الضمائر مقحمةٌ في الشعر من دون جدوى، الصورة منزوعة الألوان، الأبيض والأسود ودرجاته فحسب، كلّ شيءٍ رمادي، غبار المعارك، براميل البارود، حجارة المنازل المقصوفة، حتى مواقف الدول! 

عاد الإنسان إلى بدائيته، إلى العصر الحجري الأول، لكنه حين ذاك كان أكثر تحضراً، وكانت الناس لا تقتل من دون ذنب، ربما كانوا يموتون من أجل صراعٍ على وليمة عشاء، لكن ليس هكذا، من دون أيّ سبب!

أنظرُ إلى باب الدكان الصغير الذي افتتحه عديلي (زوج شقيقة زوجتي) أمام مخيم الإيواء في موقعٍ منزوٍ، كأني به لا أريد أن يشتري منه أحد، الخيم متلاصقة تلاصقاً يثير النفور، انعدمت خصوصية الناس، جميع النساء صارت متشابهات، كلّهن بملابس الصلاة، كلهن وجوههن سمراء من الشمس، أياديهن خشنة مصفرة من إيقاد النار، أرى ملامح أمي في وجوه الكبيرات منهن، كلهن أمي، أمي التي نزحت بعيداً عنها ولم أرها منذ أسابيع، لا يمكنني أن أنسى وجهها، ملامحها تطاردني، تلومني "يما النصيب، يما لا تخاف، يما مش حيصيبنا إلا المكتوب، يما ما تفكر بمرتك وابنك ربنا حينجيهم بإذن الله".. هذه الأم التي كانت تقفز متعلّقة برقبة الجندي الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى لتخلّص أخي من بين يديه، هذه المرة تشعر بالعجز، لا تستطيع التعلّق برقبة الطيار الذي ينطلق بطائرةٍ أسرع من الصوت، على ارتفاع عشرات الكيلومترات، ليقصف هدفاً لا يراه حتى، إنما يرى إحداثياته فحسب، يضرب ضربته من دون ذرة تأنيب ضمير، ليته يستطيع أن يرى وجوه ضحاياه، ليته ينظر في أعينهم قبل ارتكاب فعلته. 

لفظتني وتبرّأت مني، سقطت في جحر أرنب، لتعيش كما كانت تتمنى، في بلاد العجب

كانت الشمس قد هربت بالفعل، وكنتُ مرهقاً مشتتاً لا أتمنى أكثر من فراشٍ دافئ، استبدلته بقطعة حصيرٍ خشنة، ووسادة أحتضنها لأغطّ في نومٍ عميق.

سأنسى، أقرر أن أنسى كلّ ما قرأته، الأدب والفانتازيا والتاريخ والجغرافيا، علني أنسى وجودي ذاته، ثم أغرق نفسي في أعمالٍ يدوية مرهقة، أشياء تجعلني أتعب ولا أفكر، ما أقذر التفكير حين يحتلّ كياني! أُصبِح كرةً هائجةً في بحرٍ خِضمّ، بحر أعظم من كل مخاوفي.

في غمرة الملل الذي يخضِّب حياتنا صرت أبحث عن ذاتي في أدق التفاصيل، في وجه فارس، طفلي الرضيع، في ضحكة سارة، ابنتي المتخيّلة، التي جاءت من وحي خيالي، صنعتها وأطعمتها حبي وجعلتها تقرأ كلّ رواياتي، أحببتها وجعلتها تحبني، ابنتي التي تشبه "أليس"، وترى نفسها أميرة العوالم كلّها، كم أحسدها، "أليس".. ليتني أتعثر مثلها، ليت الوطن يشبه جحر أرنب.

عندما أخبرتني سارة كم ترى أنها تشبه "أليس" ضحكتُ، ثم قلتُ لها وهي تداعبُ لحيتي: 

أنتِ صادقة تماماً، ورغم أنني لا أعرف صورة أليس الحقيقية، إلا أننا فعلاً في بلاد العجائب. قلتُها وأنصتُ قليلاً إلى صوت الطائرات تلقي بحممها على الشارع المقابل لنا. ساعَتَها نظرَت إليَّ نظرةً حملَتْ ألف سؤال، في عينيها كانت تسألني: لماذا يا أبي تُلقَى هذه الصواريخ المتفجِّرة فوق رؤوسِنا؟

هل أغضبنا آلهتنا فأرسَلَتْ حمم الجحيم فوق رؤوسنا؟ أيُّ جريمةٍ ارتكبناها؟ ولأني لم أكن أعرف جرمنا، قلتُ في نفسي: ارتكبنا جريمة الحب. كنتُ أربِّتُ على رأسها من دون أي حرف، ولم تكن هي تسأل، لم تكن نظرتها تحمل إلا همّاً سرعان ما يزول، حين تخلع نعليها، وترقص حافيةً أمامي رقصةً طفولية لا أركِّز في تفاصيل موسيقاها، لأن أذني كانت مصغيةً أكثر إلى أصوات الصواريخ المتفجرة في الخارج، وجسدي كان يرتجف انفعالاً عليها. وكنت أصفّق وأحدث صوتاً عالياً علها لا تسمع سواه، ربما لتحتفظ ببراءة أعلم يقيناً أنها فقدتها.

كانت زوجتي مها، مدرّسةُ لغة عربية ضلَّت حروف اللغة منها، تجلس لتدرِّس سارة، فلا تجد ما تقوله في كتاب التاريخ أو الجغرافيا، كلَّما تحدثت عن حدود فلسطين كانت مها تبكي، فإذا ذَكَرَت شيئاً من تاريخ فلسطين كانت النكبات ودموعها تغرق كتاب التاريخ.

"كانت طفلتنا سارة، حين كان الكون صغيراً أمامها، فلا تستيقظ الكواكب إلّا إن هي فعلت، إن طوّحت طفلتنا برأسها يميناً تتمايل كل الدنيا، وإن تمطّت قليلاً لا يتسع الكون لها، وإن ضحكت ترقص السماء رقصتها الأولى".

قلتُ لسارة: كانت "حتا" بلدتنا الأصلية أختاً ثانية، سقطت بصاروخٍ أطلق من طائرة "إف 16"، ثم عضضت على أسناني، ونظرتُ إلى مها نظرة عتاب.

"ألم نعاهد أنفسنا أن ننسى التاريخ، تباً للتاريخ.. بل تباً لنا" ثم أذهبُ خارج الخيمة أمارس هواية التدخين، بعد انقطاعٍ دام سنوات، صرتُ أشعل السيجارة التي يساوي ثمنها عشرين دولاراً بسبب الغلاء الفاحش، لأتأملها تحترق أمام ناظري. هكذا من دون أن أشهق نفساً واحداً منها، ليس اهتماماً بصحّتي، بل لأن صدري ببساطة لم يعد يحتمل.

دخلت سارة في تؤدة تهادت كأنها إحدى آلهة الإغريق، قالت بصوتٍ مرحٍ متغنجٍ: هل يكفينا الحبّ يا أبي، لكي نحيا.

سقط قلبي بين قدميَّ وأنا أنظر إلى شعرها الحريري الأسود يتهادى على كتفيها، ورمشيها الطويلين يعملان أمام نافذة عينيها بسرعتهما القصوى، كأنهما حارسان عملاقان يحرسان جنية أميرة من أعين المتطفّلين، يحرصان ألا يصل إلى عينيها أحد.

صوت عبد الحليم يدوي في أذني، "من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقودٌ، مفقود" قلتُ لنفسي وكأني أهوى تعذيب ذاتي، وكأنها البلاد المفقودة! ثم ابتسمتُ قهراً.

خرجت سارة في صباح السابع من أكتوبر، ولم تعد من يومها. 

غابت الشمس مرّة أخيرة، لم أسمع صوتَ سارة بعدها، أسمع أنها كبرت في السن فجأة، شاخت وانحنى ظهرها، لفظتني وتبرّأت مني، سقطت في جُحر أرنب، لتعيش كما كانت تتمنّى، في بلاد العجب.

رفح، 3 آذار/ مارس 2024
 

* كاتب من غزة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون