صدرت رواية "بابِت" لسنكلير لويس عام 1922، أي قبل قرن كامل تقريباً، لكنّ قراءة رواية تدور بشكل شبه وثائقي حول طبقة رجال الأعمال ذلك الحين، تدعونا، في تفاصيلها، إلى التفكير في الطبقة ذاتها اليوم، خصوصاً أنّنا أمام ما يجري اليوم في الولايات المتحدة بعدما خسر دونالد ترامب - الذي قد يكون نسخة معاصرة لرجل الأعمال الذي رأيناه في رواية لويس - انتخابات الرئاسة واندفع، في ما يشبه أزمة شخصية، إلى التنديد بنتائج الانتخابات، والمحاولة لقلب نتائجها.
لا نمتنع عن التفكير في أنّ ترامب ومناصريه، وما فعله هؤلاء في اقتحام الكونغرس، قد يكونون الوارثين المعاصرين لأسلافهم في رواية لويس الذي حاز في 1930 جائزة نوبل، لكنّه كان مأزوماً لدرجة أنّهم بحثوا عنه بعدما غاب عن تلقي الجائزة، ليجدوه وقد سقط، من الإدمان، في مرحاض أُغلق عليه. هذه النهاية تذكر بأزمة بول، أحد أبطال بابِت، والذي أدى به ضيقه بحياته كرجل أعمال، إلى إطلاق الرصاص على زوجته والسجن ثلاث سنوات بعد ذلك.
"بابِت" المكتوبة من داخل مجتمع رجال الأعمال، تكاد تكون، في إحاطتها وقدرتها الهائلة على تتبّع حياة هؤلاء في جزئياتها وأركانها، وثيقة وتاريخاً يفوق ما تحفل به كتب التاريخ، كما رأى ماركس ذات يوم في روايات بلزاك. رؤية سنكلير لهذا المجتمع تكاد تكون من الداخل، حيث نقترب من أن نعثر على سنكلير لويس في شخصية بابِت وصديقه بول، وحيث نرى ما يُشبه أزمته الخاصة، في ما يمرّ به بابِت وما انتهى إليه بول.
لا نتعجّب حين نجد الشعر هو أيضاً في خدمة الرأسمال
بين ما يظهر في أميركا ترامب وأميركا بابِت ما يكاد يكون تشابهاً، بل إنّنا لا نتوقف عن الشعور بأنّ أميركا ترامب تطورٌ بعد قرن لأميركا بابِت. رجال أعمال بابِت، كما نستخلصهم من بابِت نفسه، هم هؤلاء الذين يجدون مقابلاً مالياً لكلّ شيء، بل الذين معيارهم الأهم، وقياسهم لكلّ قيمة، هو المال. ليست التجارة وحدها والمصارف الأمثلة الوحيدة لهذا القياس المالي، بل شتى حقول الحياة وأبعدها في الظنّ عن المال. الدين لا يخرج عن ذلك، القس يعرف كيف يقحم المال في العبادة.
والثقافة والفن خصوصاً ليسا بعيدين عن ذلك. الثقافة تُقاس بالرأسمال. لا نتعجّب حين نجد الشعر هو أيضاً في خدمة الرأسمال، إذ تعتبر تحفاً قصائد كتبت للإعلان، بل إنّ الرواية تحوي قصائد تعلن عن بضائع، بينها التبغ الذي يتمتع بقصيدة تُذكر على أنّها تحفة. هناك شعراء ينظمون يومياً قصائد إعلانية، وهم في صلب مجتمع رجال الأعمال وبين مشاهيره. الثقافة تُقاس إذاً بصلتها بالرأسمال. بابِت بطل الرواية ليس بعيداً عن ذلك، إنّه متكلم بارع يمكن اعتباره بين مثقفي رجال الأعمال.
إنّه أيضاً خطيب مفوّه، ما إن تظهر موهبته في الخطابة حتى تتوالى عليه طلبات الخطابة، التي هي هنا لا تختلف عن الصفقات، إنّها دفاع عن قيم الطبقة ومثُلها، قيم لا بدّ من أنّ الوطنية البادئة من أركانها، الوطنية التي هي اعتداد بالأمركة وضيق بالمهاجرين وشعور بالامتياز عن الأجداد الأوروبيين. هذه الوطنية التي تطبع "رابطة المواطنين الجيدين" هي الوطنية التي تدور على لسان ترامب، الذي هو رأسمالي عقاري مثل بابِت، ويسمي أنصاره "الوطنيين" والذي، مثل وطنيي 1922، يجعل من الجدار العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك رمزاً وطنياً، فوطنية كهذه هي عبارة عن ضيق بالمهاجرين اللاتينيين وغيرهم. ثم إنّ عنصراً آخر يشكل جزءاً من الوطنية، هو المسيحية وما يُبنى عليها من قيم؛ العائلة في الأساس.
المسيحية لا كدين فحسب، ولكن كعنصر وطني، لا تنفصل عن الرأسمال. المسيحية التي هي أيضاً، بحسب رجال الأعمال، "دين رجولي". هذا ما يردنا إلى عنصر آخر في تكوين رجل الأعمال، إنّه ذكورية تحتفل بالمرأة التي "تعتني بالبيت ولا تزعج الذكور". حين نقارن عدد النساء الجمهوريات في الكونغرس بعدد الديمقراطيات، نفهم أنّ الجمهوريين يبتلعون بصعوبة فكرة إدماج المرأة في العمل العام. لكنّ ما ينبغي أن ننتبه إليه، كركن في أيديولوجية رجل الأعمال التي تطورت إلى الحزب الجمهوري، ننتبه إلى العنصرية التي تتجلى اليوم في القومية البيضاء، المسؤولة، كما يرشح اليوم عن منظماتها، عن ذلك الهجوم على الكونغرس. لا يتوقف رجل أعمال في "بابِت" عن التنديد بالسود، الأمر الذي كان منذ قرن أكثر علانية، ففي تلك الآونة تم اقتحام كونغرس فلوريدا واستيلاء - بانقلاب - على السلطة التي باشرت العودة إلى العبودية. الآن نجد البيض هم طلائع مهاجمي الكونغرس.
لن يكون بابِت ممثل رجال الأعمال مرتاحاً طوال الوقت، ولن يكون صديقه بول سوى ضحية أيديولوجية الرأسمال الأميركي. سيؤدي هذا ببول إلى السجن، ولن يكون بابِت بعيداً عن هذه الأزمة التي مرّ بها أو تدهور إليها. هو المؤمن بالعائلة يتدهور إلى الخيانة الزوجية، يتدهور إلى الليبرالية، التي تعود الآن إلى الظهور في النزاع الانتخابي الأميركي. لكنه أمام النبذ الاجتماعي من طبقته، سرعان ما يستعيد توازنه الماضي، ويندمج ثانية في قيم ونمط حياة رجل الأعمال الذي هو أيضاً، كما هي الحال اليوم، يستلهم الحزب الجمهوري الذي يبدو ترامب انتكاسة له إلى زمن البدايات، إلى زمن بابِت وإلى ما قبل قرن، حيث يُظهر كلّ شيء أنّ القيم التي قام عليها هذا الحزب، ما زالت لها جذورها، وما زالت تعود إلى الحياة.
* شاعر وروائي من لبنان