يا ابني... هل ضربت الأستاذ جيداً؟
في الدورة العسكرية كان الضباط العاملون وطلاب الضباط يسخرون منا نحن المتعلمين، المثقفين، قاطني المهجعين الكبيرين في الجهة الغربية من الكلية، ويستخدمون للاستهزاء منا كلمة: أستاذ.
المنطق الذي يحكم هذا النوع من السخرية مصدره أن العسكري القوي لا يجوز أن يكون فهيماً، مثقفاً، أستاذاً، رقيقَ المشاعر، ذا نزعة إنسانية.. ويمكن، من ثم، أن يناقش، ويحاور، ويتفق معك بالرأي، أو يعترض، أو باختصار: يتفلسف، ويتفذلك، ويأكل هوا.. فإذا قام العسكري بعمل بطولي، وأراد رئيسه أن يمدحه، يقول له: آه يا وحش! (انتبه: تُكتب كلمة "وحش" بالواو حصراً).
ولأن العسكر يحكمون معظم البلاد العربية، ومنها سورية، منذ أربعينات القرن الماضي، فقد اختلطت الأمور في هذه المجتمعات، وصار بعض الناس يتباهون بقلة التفكير، وتَنَاحة التيوس التي يمتلكونها، فإذا سألتَ واحدَهم عن السبب الذي جعله يرتكب الحماقة الفلانية، يعطيك إحدى الإجابات التالية: الأولى، يقول لك وهو يضع إصبعه على صدغه: حيونة. أخي، أنا عقلي دكر. (في مصر يقول: دماغي جزمة قديمة)!
الثانية يقول: ما في سبب ولا بطيخ. أنا هيك بشتغل. أنت أخو كيفي؟
الثالث يقول: أنا حر. أعمل ما يحلو لي. والإنسان الذي له معي ديون ليأتِ لأدفع له ديونه على داير مليم.
وفي فرع الأمن يؤتى بالمثقف (الأستاذ الفهمان!) معصوب العينين، يسحبه عنصران لا يميز الواحد منهما بين العصا وعمود الهاتف، فإذا تعثر أثناء المشي يوبخانه بأحط الكلمات، قائلين له: فتح عينك وإمش مثل الخلق. الظاهر أنت لا تفهم؟ (وكأن تفتيح العينين مسموح به عندهم!)..
حتى يمثل أخيراً أمام ضابط التحقيق.
بالمناسبة، وضع عصبة على عيني المعتقل له معان مختلفة:
1- الإذلال.
2- الضغط النفسي لتسهيل نزع الاعترافات.
3- ألَّا يرى الموقوف وجه الضابط فيعرف مَن هو، فلربما حفظ هيئته وفكر بالانتقام منه بعد خروجه من هنا، إذا خرج.
قد يكون هؤلاء الأساتذة معتقلين، ومذلولين، الآن، لأنهم اتخذوا مواقف للدفاع عن هؤلاء العناصر وأمثالهم من الناس الذين لم يُوَفَّوْا حقهم من التربية والتعليم والصحة والاحترام..
وقد علمنا، من أناس عاشوا تجربة الاعتقال الطويل، أن الموقوف المحكوم بالإعدام الذي سيذهب بعد قليل إلى المشنقة تُرفع العصبة عن وجهه، ويسمح له أن يرى وجه المحقق، لأن معرفة شكل المحقق أو اسمه لن تفيده طالما أنه سيقول "عَنّ" (يعني: يموت).
ومن الحقائق بالغة الطرافة أن معظم ضباط المخابرات في بلادنا ثقيلو الظل، ينطبق عليهم بيت الشعر الذي ينقله أبو الفرج الأصفهاني في العقد الفريد، ويصف به رجلاً ثقيل الظل:
إذا حل الثقيل بأرض قومٍ
فما للساكنين سوى الرحيلِ
ولكن المنافقين الذين يجالسون ضابط المخابرات في ساعات الصفا يوهمونه بأنه ظريف، صاحب نكتة، فبمجرد ما يلقي نكتة أو حكاية ينفلت المنافقون بالضحك، وما عادت قوة على وجه الأرض بقادرة على إسكاتهم، حتى يلقي عليهم طرفة أخرى فيستأنفون ضحكهم الممالئ، وهو، من غبائه يعتقد أنه ظريف، ويتحول إلى كائن دائم التنكيت.
وهناك حقيقة أخرى، مفادُها أن ضباط المخابرات يحتقرون الناس جميعاً، ولكنهم يكرهون المثقفين (الأساتذة والمعيدين والدكاترة) كراهية خاصة، لسبب لا يمكن أن يخفى على ذي لب، وهو أن هذه الفئة المتعلمة، على الرغم من ضعفها، وفقرها، وقلة حيلتها، أحسن من أولئك الضباط بكثير. ولذلك ترى الضابط يتلذذ بمنظر الأستاذ الواقف أمامه معصوب العينين، ومن فرط حقده عليه تتفجر لديه قريحة التنكيت، فيقول لأحد العناصر: قل لي يا إبني. إن شاء الله درتوا بالكم عَ الأستاذ في غيابي؟
يقول العنصر وهو يخبط قدمه بالأرض مثل الجحش حينما تقرص الذبابة اسْتَهُ: نعم سيدي. ما قصرنا مع الأستاذ.
- طعميتوه كرابيج؟ (الكرابيج جمع كرباج، وهي أيضاً نوع من الحلوى اللذيذة).
يقول العسكري ضاحكاً: نعم سيدي، وحطينا له فوق الكرابيج ناطف!
- وطعميتوه كمان محشي قَرْع؟
وقبل أن يجيب العسكري، يستأنف الضابط:
- قَرَعتوه قَرْع للأستاذ؟
العساكر الذين يرون كيف ينزل الضابط إلى مستواهم، على نحو مقصود، لكي يستهزئ من الأساتذة المثقفين، تزداد كراهيتهم لهذا النوع من البشر، دون أن تكون لديهم أية فكرة عن أهمية هؤلاء المتعلمين للنهوض بالبلاد، ومن يدري؟ قد يكون هؤلاء الأساتذة معتقلين، ومذلولين، الآن، لأنهم اتخذوا مواقف للدفاع عن هؤلاء العناصر وأمثالهم من الناس الذين لم يُوَفَّوْا حقهم من التربية والتعليم والصحة والاحترام..
حدثنا الصديق راشد الصطوف، عن رحلته الدراماتيكية العجيبة إلى سجن تدمر. ومما جاء في حديثه أن العسكري المجند الذي يخدم في هذا السجن يُحتقر من قبل طاقم السجن، ويُضْطَهَد، ويعامَل كما لو أنه "منديل الزَّفَر"، ويطلقون عليه لقب "بلدية"، وذلك كناية عن أن (البلدية) في المدن تختص بحفر الكهاريز لأجل الصرف الصحي، وتَطرد الكلاب الشاردة، وتنقل القاذورات والأوساخ والفطائس إلى خارج المدينة.
واحد من هؤلاء "البلدية"، لمح في قدمي المناضل العتيد راشد الصطوف حذاء صيفياً جديداً مما يسميه أهل الرقة (شَحَّاط)، ويقال له في دير الزور "جاروخ"، أو "كلاش". فأخذه منه وأعطاه بدلاً عنه شحاطاً عتيقاً كان ينتعله. وعندما احتج راشد، اعتقد "البلدية" أن له حظوة عند الضباط، وإلا كيف يتجرأ ويحتج؟ ولكنه، إذ عرض الأمر على الضابط، أعطاه إيعازاً بأن يفعل ما يحلو له بهذا الأستاذ.. فعذبه تعذيباً فظيعاً. وهناك عسكري آخر، إذا حمي المزاد لا يباع بربع ليرة، جمع المعتقلين (الأساتذة) في الساحة، وراح ينقرهم برأس حربته في رؤوسهم ويقول لهم: شو اللي مو عاجبكم بالسيد الرئيس حافظ الأسد ولاه جحاش؟ ولاك هادا الرئيس (شخاختُه دَوَا)..
وأثناء التفقد، والتعرف على المعتقلين، ظهر حس التنكيت على عسكري ثقيل الظل، فعندما عرف أن أحد المعتقلين من مدينة حَمَاه، والثاني من طرطوس، والثالث من السويداء، والرابع من السلمية.. ضحك وقال: شو؟ إنتوا (مِنْ كُلِّ قُطْرٍ أُغنية)؟
(كان يشير بتعليقه إلى برنامج غنائي كان يبث من إذاعة دمشق، ويقدم أغنيات من الدول العربية).
وهكذا..