البنك الدائن الحنون
قلتُ لصديقي أبو سعيد، عندما اتصل بي البارحة:
- بما أنّك مولع بالحكايات التي نتداولها خلال مكالماتنا، اسمع هذه. ذات مرّة؛ جاء أبو فوزي لزيارة صديقه المحبّب أبو جويد، وكالعادة، أجرى سلسلة الحركاتِ التي تُطَمْئِنه وتجعله يفتح له الباب. وبعدما أنزل أبو فوزي حمولته من الأكياس التي تحتوي على شاي وسكر وقهوة، وحوالي نصف كيلو من التين اليابس، قال:
- والله، يا أبو جويد، أنت هلكتني، وربيت لي على قلبي علّة. يا أخي متى ستتحرّر من هذا السجن في وكرك البائس؟ نحن الآن في فصل الربيع، والطبيعة أصبحتْ مهرجانَ ألوان من مشتقاتِ الأبيض، والأخضر، والأحمر، والأصفر.. الزهور والورود تتفتّح، والروائح الطيّبة تعبق، والعصافير تُغرّد، وتتنقل من فننٍ إلى فننٍ، وأنت قاعد هنا (وكأنّك) مقطوع من شجرة.
- كلامك صحيح، يا أبو الفوز، ولكن أرجوك احذف (كَأَنَّكَ) من جملتك الأخيرة، فأنا مقطوع من شجرة بالفعل، ولولا أنّك تأتي إليّ، وأحياناً يأتي أبو مرداس، وأبو صلاح، لنسيتني البلد، ونسيني الزمن، ونسيت نفسي.
تدخل أبو سعيد قائلاً: الغريب في الأمر أنّ أبو جويّد كان يذهب، في تلك الأيام، إلى عمله في مديرية "الخدمات الفنية"، بشكلٍ يومي، ويعودُ إلى وكره، على الرغم من كثرة الدائنين (الكَبَّاسين)!
- ذهاب أبو جويد للدوام، يوميّاً، بحدِّ ذاته، حكاية. فقد اعتادَ أن يلفَّ رأسه بشماغ، لكيلا يُعْرَف، ويترك فتحة صغيرة أمام عينيه للمراقبة، وقد شرح لي، ذات مرّة، أنّه لم يسلك طريقاً واحداً مرّتين، فكان يغيّر وجهته إلى اليمين أو اليسار بحسب وجود دائن (كبّاس) في منطقة ما، وذات مرّة التقى بالكبّاس "أبو عموري" في زاروب ضيّق، وجهاً لوجه، ولما اقترب منه، يريد أن يطالبه بالدَين، عاجله أبو جويد بالكلام قائلاً:
- أهلاً أبو عموري. العفو منك، أنا مستعجل، ولكن، إذا كنت تريد شقيقي أبو جويد، الموظّف في مديرية الخدمات الفنيّة، فهو اليوم في إجازة، تجده إذا شئتَ جالساً في الدار يشرب الشاي مع والدتي.
وتركه ومشى مسرعاً.
ضحك أبو سعيد، وقال: يا لها من حيلة ذكية.
- نعم. وقد مرّت على أبو عموري، على الرغم من أنّ أبو جويد كان وحيداً لوالديه، لا أخ له. وكان ينكّت على نفسه بهذا الخصوص، وكلّما قلنا له: أنت وحيد، يرد علينا: نعم، أنا فردة صرماية ما لها أخت!
تستطيع أن تتمشّى عصر كلّ يوم وتنظر إلى مبنى بنك التسليف بخيلاء واستعلاء، دون أن يقول لك أحد "ما أحلى الكحل بعيونك"
وبالمناسبة؛ لم يكن حظ أبو جويد في الحياة تعيساً على الدوام، فتعيينه في مديرية الخدمات كان أمراً حسناً، لأنّ مبنى هذه المديرية يشبه المتاهة، الداخل إليه داخل، والخارج منه خارج، ولا أحد يعلم يد مَن فوق، ويد مَن تحت، وهناك موظّفون أسماؤهم موجودة في السجلات، ولكنهم لا يأتون للدوام إلا في رأس الشهر، يقبضون رواتبهم ويغيبون شهراً قادماً.. ومن الطريف أنّ بعض الدائنين الكبّاسين كانوا يأتون إلى المديرية، ويكبسون على أبو جويد، ولكنه كان متحصّناً بسلسلةٍ من الإجراءات؛ فكان يقفل باب غرفته من الداخل، ومَن يأتي إليه ويجد الباب مقفلاً، يرجع من حيث أتى، أو يذهب إلى الغرفةِ المجاورة، ويسأل عنه الموظف أبو حمدي، وهذا بدوره يستجوب الرجل، فإذا وجده مواطناً عادياً يريد إنجاز معاملة، يطرق بيده طرقةً واحدة على الجدار الذي يفصل غرفته عن غرفةِ أبو جويد، فيفتحُ له الباب، وأما إذا طرق الجدار طرقتين، فالمقصود أنّ الشخص الذي يسأل عنه ربّما كان كبّاساً، فيسكن أبو جويد في مكانه، لا يتحرّك حتى يتلقى إشعاراً آخر. وأبو حمدي هذا كان من محبّي أبو جويد، يستكشف له الطريق أثناء دخوله إلى المديرية، وأثناء الانصراف، فإذا وجد الكوريدور خالياً من الكبّاسين، يعطيه إشارة فينصرف مسرعاً.
قال أبو سعيد: صدقاً أنا أسمع منك هذه الحكاية أتخيّل أنّها تصلح أن تكون فيلم كارتون.
- المهم أنّ أبو فوزي، في هذه الزيارة، كان يحمل لأبو جويد فكرة عبقرية، وهي أن يذهب إلى مصرف التسليف الشعبي، ويحصل على استمارة، يكتب فيها أنّه يحتاج قرضاً شعبياً، من أجل ترميم منزل، و..
عندما سمع أبو جويد هذه العبارة انفلتَ بالضحك، وقال:
- منزل؟ هل هذا المكان الأجرب الذي أعيش فيه منزل؟ ما رأيك أن نكتب ترميم وكر؟
- يا أخي ما في مشكلة، اكتب ترميم (قن دجاج)، المهم أن يكون لديك سبب يقنع الفريق الإداري في البنك، لأنّهم، قبل أن يمنحوك القرض، سيرسلون لجنة للكشف على المنزل، ليتأكّدوا من صحة ادّعائك، وخلال الكشف، يقرّر الموظّف الخبير كم يلزم للترميم.
مرّة أخرى ضحك أبو جويد، وقال: والله لو كنت أنا خبيراً في البنك، وأجريت كشفاً على هذا الوكر، لرفضتُ منحَ صاحبه ربع ليرة سورية. هل هو قابل للترميم أساساً؟
المهم؛ يا أبو سعيد، عرض أبو فوزي فكرته العبقرية على أبو جويد، وهي استبدال الدائنين (الكبّاسين) بكبّاس واحد هو بنك التسليف، وللأمانة، لقب كبّاس لا ينطبق على البنك، لأنّه يعطيك القرض، ويقتطع الأقساط مع فوائدها من راتبك، يعني أنّك غير مضطر لأن تلتقي به، وهذا الخوف من الكبّاسين الذي يسكنك، ويجعلك تهرب من ظلّك وخيالك، يزول، وأنت تستطيع أن تتمشّى، عصر كلّ يوم، في شارع الجلاء، وتنظر إلى مبنى بنك التسليف بخيلاء واستعلاء، ولا يستطيع أيّ موظّف، حتى ولو كان المدير أبو إسماعيل نفسه، أن يقول لك "ما أحلى الكحل بعيونك"، بأيّ حق يقول لك ذلك طالما أنّ أقساطك مدفوعة مع فوائدها القانونية؟
قال أبو سعيد: والله كلام أبو فوزي منطقي.
- صح، ولكن هناك قاعد تقول: أنت لا تستطيع أن تسدّد ديونك بالاستدانة. والمثل يقول: "دين ما بيوفّي دين".
- وكيف رد أبو جويد على هذا الاقتراح؟
- أبو جويد ينطبق عليه قول المتنبي: أنا الغريقُ فما خوفي من البلل؟ طبعاً وافق. وفي اتصالك القادم يمكن أن أحكي لك تتمة الحكاية.