حكايات لا محل لها بين الأعْراب
إذا أردنا المضي في سرد حكايات من بيئتنا الشعبية، فلا بد من تَذَكُّرِ كتابٍ قصصي جميل، أَبدعه الأديب اللبناني الراحل سحبان مروة، عنوانه: حكايات لا محل لها بين الأعْراب.
إنه عنوان ساخر، يلعب على قول النحاة، إن هذه الجملة (لا محل لها من الإعْراب).
دلالةُ العنوان مغايرة للفظه، وتوحي بأن حكاياتنا يجب أن يكون لها محل بين الناس، وأن تُعطى ما تستحق من الاهتمام والتفكير، وتقدم صورة حقيقية لمجتمعنا، ويجدر بنا، كذلك، أن نتحاشى سرد الحكايات التي تسيء للشعب، وللمرأة، وللإنسان عموماً.
الأساتذة المتخرجون من قسم اللغة العربية في جامعاتنا، يروون لنا، في جلساتنا، بعضاً من محفوظاتهم، باعتبارها تمثل حالات بلاغية رفيعة المستوى. مثلاً؛ هم يترنمون بهجاء الشاعر جرير للراعي النميري، في قصيدة أطلقوا عليها اسم "الدامغة".
كان عُبَيد بن حُصين بن معاوية بن جندل النميري، الملقب "الراعي النميري"، من فحول شعراء عصره، وكان منحازاً لشعر الفرزدق، ما سبب للشاعر جرير حنقاً وبغضاً، فهجاه بقصيدة، قال له في أحد أبياتها:
فغُضَّ الطرف إنك من نميرٍ
فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
إخوتنا، مدرسو اللغة العربية، يروون هذا السانحة، للدلالة على قوة الهجاء، ومقدرة الهاجي الفطحل "جرير" على دَمْغ خصمه، وتثبيت كتفيه.. ولكنهم، للأسف، لا ينتبهون لما ينطوي عليه هذا البيتُ من معانٍ سلبية. فإذا فرضنا أن الراعي النميري كان إنساناً ذليلاً، وضيعاً، منحطاً؛ ما علاقةُ قومه، بني نمير، كلهم، بالأمر؟ هل أفراد القبيلة كلهم نسخ مشابهة للراعي؟ وهل يعقل أن الانتساب إلى قبيلة ما، نمير أو غيرها، يوجب على الإنسان أن يخجل من نفسه ويغض طرفه؟
ويأتي الشطر الثاني من البيت، ليزيد الطين بلة، عندما يجعل قيمة إنسان ما، ترتفع لمجرد أنه ينتمي إلى قبيلة كعب، أو قبيلة كلاب. بمعنى أن الشاعر، هنا، لا يتباهى على خصمه بإنجازاته الشخصية، بل بانتماءاته القبلية الوراثية.. هذا مع أن القبيلة، مثل أي تجمع بشري، فيها الإنسان النبيل، والعادي، والمنحط، ولا يجوز، من ثم، وضع الجميع في سلة واحدة، وتقيمهم على أنهم عظماء، أكابر، محترمون.
يمكن سحب خط الفخر بالقبيلة على استقامته، لنصل إلى أنواع أخرى من المفاخر التي نسمعها، في حياتنا المعاصرة، كأن يردد أمامك أحدُ الناس مقطعاً من قصيدة قديمة لمحمود درويش (سَجِّلْ أنا عربي). وإن كان محمود درويش، يومئذ، قد تحدى الإسرائيليين بعروبته، إلا أن بعض الناس، اليومَ، يتباهون بمجرد انتمائهم للعرب، بالولادة، وثمة أناس آخرون يتباهون بكونهم سوريين، ويرددون أمامك مقطعاً من أغنية أداها الفنان الراحل عبد الرحمن آل رشي بصوته الجهوري: أنا سوري آه يا نيالي. وهذا ما يدفعنا للتساؤل، بطريقة استنكارية:
- نيالك، يا سوري، على ماذا؟ ألا ترى أن سورية التي تتباهى بها قد أصبحت أربع مناطق، وبلغ عدد المهاجرين منها إلى بلاد العالم بضعة ملايين؟ وأنك لا تستطيع إحصاء الدول التي تتصارع على أرض بلادك، وتقصفها، وتحتلها؟
يمكننا، هنا، من باب الاسترسال، أن نتحدث عن فعل الأمر (غُضَّ)، ونتساءل: لماذا جاء منصوباً، مع أن فعل الأمر ساكن دائماً؟
الجواب، من حيث قواعد اللغة، أن تشديد حرف الضاد يعني أن لدينا حرفا (ضاد) ساكنان، واللغة العربية لا تقبل التقاء الساكنين، ولذلك جعلوه منصوباً، جوازاً، وبالقياس على هذا نتذكر رائعة سعيد عقل "مُرَّ بي"، التي لحنها محمد عبد الوهاب، وغنتها فيروز، وفيها فعل الأمر منصوب أيضاً.
ومن أساليب البلاغة العربية، الحذف، الذي يدفع ذهنَ القارئ للبحث عن المحذوف، كما في قوله: مثلما النسمةُ من بردى (أي مثلما تهب النسمةُ من بردى).
لم يستخدم سعيد عقل الفعل مُرَّ، مصادفة، وإنما لأنه من أكثر الشعراء العرب عناية بالبلاغة، وبحثاً عن حالات قليلة الاستعمال في الشعر. ومن ولعه بالبلاغة، تراه يستخدم فعل الأمر المنصوب، في أكثر من موضع، كقوله في قصيدة "مكة":
وأَعِزَّ، ربِّ، الناسَ كلَّهم
بيضاً، فلا فرقتَ، أو سودا
ومن صولات سعيد عقل، وجولاته البلاغية، أنه يُباعد بين الفعل والمفعول به، بجملة اعتراضية، فبين فعل "أعزَّ"، والمفعول به "الناسَ" أدخل الدعاء (رَبِّ)، بعدما حذف أداة النداء (يا).. ويلجأ، في البيت نفسه، لاستخدام البدل، فبدل (الناسَ) يقول (بيضاً)، ويضع جملة اعتراضية أخرى (فلا فرقتَ) أو سوداً.
هذا الجري وراء البلاغة عند سعيد عقل أبْعَدُ ما يكون عن جري أساتذة العربية وراء معرفة أجمل بيت هجاء في اللغة العربية، دون أن ينتبهوا للمعاني السيئة في البيت. بينما نحن ننتبه إلى المعنى الإيجابي في بيت سعيد عقل، وهو أن الشاعر يرفض التمييز بين البشر على أساس اللون.
يغرينا عالم سعيد عقل البلاغي بالبحث عن المزيد، فمن المعلوم أن فعل غَنَّى يتعدى بحرف الجر اللام، كأن تقول (غنيتُ لمكةَ)، ويمكن أن يتعدى بنفسه فيصبح: غنيتُ مكةَ، والصيغة الثانية أقوى، فهو، هنا، يجعل الغناءَ أكثرَ قُرباً من المدينة المُغنَّى لها، وأكثرَ حميميةً. وسرعان ما يلجأ للبدل، مرة أخرى، فيقول: أهلَها الصيدا.
ويقول في بيت آخر: و(على) اسمِ رَبِّ العالمين عَلَا بنيانُه: لاحظ، عزيزي القارئ، أن (على) الأولى حرف جر، و(علا) الثانية فعل ماض، وبينهما جناس لفظي، والشَّهْب: هو الجبل الذي تعلوه الثلوج. فمع أن مكة مدينة صحراوية استعار لها سعيد عقل، للتشبيه، منظراً لبنانياً مألوفاً هو منظر الجبل المغمور بالثلوج "الشَّهْب".
(حديث ذو شجون- يتبع)