جولة في عالم السرد والحكي
ذاكرةُ شعبنا عامرةٌ بالحكايات. يمكن لنا، إذا شئنا، أن نُجري نهراً من الحكايات. ولكن هذا أمر خطير، وحسّاس، فللحكايات دلالاتٌ، قد يكون بعضها مؤذياً.
في بدايةِ عصر التلفزيون، عرفنا نوعاً من الرجال الظرفاء، الواحد منهم يدعى "مونولوجيست"، يقف على المسرح، ووراءه فرقة موسيقية تعزف له أنغاماً مرحة، ويسردُ على الجمهور حكايات مُضحكة، اشتهر منهم، في مصر، أحمد غانم الذي كان ينكّت على الحموات، ويظهرهن عدوانيات لا يتركن أصهارهن يعيشون بسلام.
الحماة، في اللغة الإنكليزية تُدعى (Mother in low) وتعني الأم بالقانون، أو لنقل: الأم الثانية، وتحظى في البلاد الأوروبيّة باحترامٍ كبير، فهل يجوز أن ننكّت عليها؟ أو نقلّل من احترامها؟
يكادُ التنكيت على الحموات، في مجتمعنا، أن يكون متفقاً عليه، بدليل الحكاية التي رواها أحد نجوم الكوميديا السوريين الأوائل، ذات يوم، وفيها أنّ حماراً رفس حماةَ رجلٍ ما، فأماتها، وحزن لموتها الأهل والأقارب والجيران، وأقام لها صهرها المحترم سرادق عزاء، وصار الرجال المعزون يأخذون الصهر بالأحضان، وكلّ واحد منهم يسأله، همساً: هل تبيع الحمار!
يقتضي العدل، في مجالِ السخرية، أن يبدأ المرء بنفسه، ولا يجوز أن ينكّت على عاهةٍ فطريّةٍ موجودة لدى أحد الناس، أو يستهزئ بها
يقتضي العدل، في مجالِ السخرية، أن يبدأ المرء بنفسه، ولا يجوز أن ينكّت على عاهةٍ فطريّةٍ موجودة لدى أحد الناس، أو يستهزئ بها. لأنّ العاهة جاءت معه بالولادة، وليست من صنع يده.
الاستهزاءُ بالعاهاتِ أمرٌ اختصَّ به الشاعر الكبير ابن الرومي، فقد سخر من رجلٍ أحدب، وآخر ذي أنف كبير، ومثله فعل المتنبي حينما استهزأ برجلٍ شحيح البصر، قائلاً:
فَيا اِبنَ كَرَوَّسٍ يا نِصفَ أَعمى وَإِن تَفخَر فَيا نِصفَ البَصــــيرِ
تُعادينا لِأَنّا غَيرُ لُكْـــــــــــــنٍ وَتُبغِضُنا لِأَنّا غَيــــــــــــرُ عورِ
فَلَو كُنتَ اِمرَأً يُهجى هَجَونا وَلَكِن ضاقَ فِتْـــــــرٌ عَن مَسيرِ
وأمّا الجاحظ، فنحا في كتابه "رسالة التربيع والتدوير" نحو المتنبي وابن الرومي، عندما سخر من الشكلِ الخارجي لخصمه، ولكن، بفنيّةٍ عاليةٍ جداً، كعادته، إذ قال: كان "أحمد بن عبد الوهاب" مفرط القصر، ويدّعي أنّه مفرط الطول، وكان مربّعاً، وتحسبه، لسعة جفرته واستفاضة خاصرته، مدوّراً. وكان جعد الأطراف، قصير الأصابع، وفي ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنّه عتيق الوجه، أخمص البطن، معتدل القامة، تام العظم. وكان طويل الظهر، قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه، يدّعي أنّه طويل الباد، رفيع العماد، عادي القامة، عظيم الهامة، قد أعطي البسطة في الجسم، والسعة في العلم، وكان كبير السن، متقادم الميلاد، وهو يدّعي أنّه معتدل الشباب حديث الميلاد.
يكادُ التنكيت على الحموات، في مجتمعنا، أن يكون متفقاً عليه
المعلّم، الجاحظ، هنا، وعلى الرغم من ارتكابه خطيئة هجاء الشكل، تراه يشير إلى الطباع، إذ يلمّح إلى أنّ خصمه متناقض مع نفسه، مغرور.
الجاحظ يُظهر معلميته كلّها في وصف طباع البخلاء، وعنده نص مبهر عنوانه "قاضي البصرة"، يقول فيه: كان لنا بالبصرة قاضٍ يقال له عبد الله بن سُوَّار، لم ير الناس حاكماً قطّ ولا زِمِّيتاً ولا ركيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه، وملك من حركته، مثل الذي ضبط وملك، كان يصلّي الغداة في منزله وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسه فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصباً لا يتحرّك له عضو، ولا يلتفت ولا يحلّ حبوته، ولا يحلّ رجلاً عن رجل، ولا يعتمد على أحد شِقَّيه حتى كأنه بناء مبنى، أو صخرة منصوبة، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم إلى العصر، ثم يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتى يقوم لصلاة المغرب، ثم ربما عاد إلى محلّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود والشروط والوثائق، ثم يصلي "العشاء" الأخيرة وينصرف.
ذات يوم؛ وأصحابه حواليه، وفي السّماطين بين يديه، إذ سقطت على أنفه ذباب، فأطال المكث، ثم تحوّل إلى مؤق عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرّك أرنبته، أو يغضّن وجهه أو يذبّ بإصبعه، فلما طال ذلك عليه من الذباب وشغله وأوجعه أحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشدّ من مرّته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله له أضعف، وعجزه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرّك أجفانه، وزاد في شدة الحركة، وفي فتح العين، وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره، وبلغ مجهوده، فلم يجد بُدّاً من أن يذب عن عينه بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمقه وكأنهم لا يرونه، فتنحى عنه بقدر ما ردّ يده وسكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، ثم ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطرف كمّه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك، وعلم أن فعله كلّه بعين من حضره من أمنائه وجلسائه، فلما نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذباب ألحّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب!