إعلام لبناني وإعلام سوري
خطر لي، أنا محسوبكم، أن أتساءل عن السبب الذي يجعل المواطن السوري يُكثر من الفرجة على المحطات اللبنانية، وعندما تطلع معه، أثناء التقليب بالروموت كونترول، محطةٌ سورية، يسارع إلى تجاوزها، ولم أجد صعوبة في الحصول على الجواب الأقرب إلى المنطق، وهو أن اللبنانيين ملوكُ البرامج المنوعة بدون منافس، يساعدهم على ذلك هامشُ الحرية الكبير الذي يتمتعون به، حتى إن برنامج "لول"، لهشام حداد وأرزة شدياق، اكتسح سوق الفرجة في البلاد العربية قبل ربع قرن، وفكرتُه الأساسية اجتماعُ رجال ونساء في الاستوديو، وسرد نكات جنسية، وبألفاظ صريحة، وهذا أمر مرفوض، ومستهجن، في كل الدول العربية، عدا لبنان.
الحرية المتجذرة في المجتمع اللبناني، ساعدت الإعلاميين اللبنانيين، كذلك، على إنجاز برامج سياسية رفيعة المستوى، وصَدَّرَتْ أسماءَ مقدمي برامج نجوم، مثلاً؛ في برنامج، "صار الوقت" المصنف في زمرة الـ توك شو، يستقبل مارسيل غانم سياسيين لبنانيين كباراً، ويكون الحوار رشيقاً، وذكياً، وصريحاً، والأحلى أولئك الصبايا والشبان الذين يحضرون بوصفهم جمهوراً، ومع ذلك يقدمون مداخلات مفاجئة من حيث عمق الثقافة، والجرأة في الطرح، والأهمية في الأفكار.
وإنه لمن الطبيعي، في المقابل، أن تكون البرامج التلفزيونية السورية ناشفة، ومتجهمة، فخطاب حزب البعث الذي يحكم سورية منذ 1963، إنشائي، حماسي، شعاراتي، فارغ، لذلك يكون التعبير عن المواقف السياسية بالهتافات، والدبكات، والزغاريد، وإطلاق النار في الهواء، فإن لم يتحمس المواطنون للانخراط في هذه النشاطات، فإن أجهزة الأمن تفرضها عليهم بالقوة، ولا شك أن السوريين المتقدمين في السن، يذكرون كيف كانت فروع حزب البعث في المحافظات تجبر الناس على الخروج في مسيرات (عفوية)، بقصد أن يعبروا عن فرحهم بقرار أصدره حافظ الأسد، أو بشار، حتى لو كان قراراً ضاراً بهم، والسير في الشوارع بالطريقة التي يلخصها المثل الشعبي "رَكض وغبرة وقلة قيمة"، وأجهزة الأمن كانت تستنفر، أثناء المسيرة، بمساعدة مخبرين مأجورين أو متطوعين، لتسجيل أسماء المواطنين الذين يتقاعسون عن الفرح والتأييد، دواليك حتى تصل الجموع الحاشدة إلى حيث تكون الكاميرات التلفزيونية منصوبة، فتقرع الطبول، وتترغل المزامير، وينزل الشبان والصبايا إلى الدبكة، وما إن تنتهي هذه المجموعة من دبكتها، وتتابع سيرها، حتى تأتي مجموعة أخرى، وتفعل ما فعلته سابقتها... وكانت المحطات التلفزيونية السورية، تنقل وقائع هذه المسيرات على مدى ساعات قد تستغرق مساحة البث كلها.
في يوم من أيام الثمانينات، فوجئ الناس، في كل المدن السورية، بإطلاق نار كثيف، يخرج من كل بناية، وساحة، وشارع، وعلى الرغم من الرعب الذي انتابهم، أطلوا برؤوسهم من الشبابيك، وصاروا يسألون مطلقي النار المبتهجين عما جرى، فقيل لهم إن حافظ الأسد كان مريضاً، وشفي. واستمر هذا الأمر يزداد ويتصاعد، حتى ظهر حافظ الأسد على شاشة القناة التلفزيونية الوحيدة التي كانت متوفرة لدينا، وطلب من مطلقي النار أن يتوقفوا. وقد علق أحد الظرفاء، يومها، على ظهوره بالقول: لعله خاف من أن نعلق مع إسرائيل فجأة، ونأتي لنطلق عليها النار، ونكتشف أن سورية أنفقت كل رصيدها من طلقات البنادق في هذه الفرحة!
اعتاد الناس، في سورية، على المسيرات الجماهيرية، وما عادوا يكترثون للركض والغبرة وقلة القيمة، وأصبحت لديهم هموم من نوع آخر، فمثلاً، إذا أراد أحدهم أن يزوج ابنه في شهر تشرين الثاني، يستحيل عليه أن يعثر على طبال وزمار لأجل إحياء حفلة العرس، فاحتفالات الحركة التصحيحية، بالنسبة للطبالين والزمارين، موسم شغل. وفي قصة للكاتب الصديق راتب شعبو، أن رجلاً توفيت والدته يوم مقتل باسل الأسد، 1994، فلم يستطع العثور على صيوان (سرادق) من أجل استقبال المعزين، لأن كل واحد من المنافقين في تلك المدينة اعتبر باسل الأسد من أفراد أسرته، فنصب صيواناً وجلس يقدم للناس قهوة مرة، ويسمعهم صوت القرآن الكريم من المسجلة حزناً عليه.
وكان لدينا نموذجان من مقدمي الأخبار، أولهما يمثله السيد رجا فرزلي، ذو الحاجبين الكثين، المتخصص بقراءة نشرات الأخبار، وكان يجلس في مواجهة الكاميرا بطريقة جبهية، ولا يوجد في جلسته، أو في وجهه، أي تعبير عن السماحة، ويستحيل أن يبتسم حتى ولو بالخطأ! ونموذج الأستاذ مروان صواف الذي كان يقدم برامج فنية وثقافية حوارية، ويمتلك ثقافة واسعة، ولكن ثقافته كانت ترغمه على سرد معلومات كثيرة، لازمة أو نافلة، حتى يصل، بعد زمن طويل، إلى السؤال الذي يوجهه للضيف، وغالباً ما كان الضيف يتحدث أقل منه بكثير.
قلما تعثر، في المحطات اللبنانية، على مقدم برنامج جالس في مكان ثابت، فتراه يرقص، إذا كان البرنامج راقصاً، ويضحك، ويمازح ضيوفه، وقد شاهدت، في أحد البرامج، ضيفاً يروي قصة، ويقوم بتمثيلها بالحركات والإشارات، فيجعل الحاضرين في الاستوديو أو في المنازل، يضحكون بصفاء.
أمضينا، نحن السوريين العتيقين، قسماً كبيراً من حياتنا ونحن مبتلون بالقناة الأرضية الأولى، ثم صار عندنا قناة ثانية أقل تجهماً بالطبع، ولكنها بائسة. ثم صار عندنا فضائية نسخة طبق الأصل عن الأرضية الأولى... وبدأ حظ السوريين عموماً يتحسن، عندما صار في الحياة شيء اسمه ساتلايت، وأصبح في مقدور المواطن أن يمسك بيده الروموت كونترول، ويقلب (المحطات) على كيفه، أقصد كل المحطات الموجودة على القمر الصناعي، عدا المحطة السورية.