هل تستطيع مقاومة روائح الشواء؟
سيرة الظرفاء (4)
هذه المرة، أنا الذي اتصلتُ بأبو سعيد، وأعلمته بأن حكايات كثيرة عن الظرفاء تخطر في بالي، خلال هذه الأيام بكثرة، وبالأخص حكايات الأشخاص الشرهين للطعام.
- وأنا، كذلك، خطرت لي بعض الحكايات، ولكن دعني أسمعْ منك أولاً.
- الطريف، من وجهة نظري، أن نوعاً من الجاذبية الخاصة تنشأ بين محبي الطعام، فتراهم يصبحون أصدقاء، ويمكن تفسير ذلك بأنهم: أبناء مصلحة واحدة! هذه المودة تجعلهم، في بعض الأحيان، يشكلون ثنائيات، فإذا أنت أردتَ أن تتحدث عنهم تقول: ومما يروى عن الثنائي "فلان وعلان" أنهما التقيا، والتهما كمية كبيرة من الأطعمة، وتعرضا لموقف طريف.. وهكذا.
- هل لديك مثال؟
- نعم، وهو مثال ظريف للغاية، فـ "أبو الجود وأبو طلال" شَكَّلا ثنائياً مدهشاً، وكانت لهما في أسواق مدينة إدلب صولات وجولات وحكايات، وهما، للأمانة، كريمان مبذران، عندما تقع عينُ أحدهما على أكلة شهية، سرعان ما يسحب أحدهما رفيقه من يده، ويمشي به نحو الدكان، ويجلسان متقابلين، ويقول للبائع: هات. وبعد أن يلتهما ما لا يحسب الحاسب من الطعام، تراهما يتزاحمان في سبيل الدفع، كل منهما يصر على أنه سيدفع الحساب.. وعلى كل حال، الحكاية التي سأرويها لك لا علاقة لها بالشراء والدفع، بل إنها حدثت بمحض المصادفة.
- شوقتني لأعرف الحكاية.
- في الساحة التحتانية، التي تعرف باسم "ساحة الخضرة"، ثمة دكان متطاول، صاحبه "أبو الناجي سختيانة"، يبيع فيه مواد مختلفة، منها الذرة التي يشتريها كشاشو الحمام، وعنده نوعان من الفحم، واحد للشوي، والثاني للأركيلة، وأحياناً يشتري من بعض الفلاحين كميات صغيرة من الزيتون الأخضر، أو القريشة، أو قلوب المشمش، بالإضافة إلى نوع رديء جداً من التين اليابس، يُسَمَّى (القَرُو)، لا يصلح للبشر، بل يشتريه مربو البقر أو الجحاش.. وكان أبو الجود وأبو طلال يتخذان من هذا الدكان مقراً للاستراحة، وشرب الشاي، واللقاء ببعض الأصدقاء..
- أعرف هذا الدكان جيداً، وجهته نحو الشمال. صح؟
- نعم، صح.. وذات مرة كانا جالسين في الدكان، ووقع بينهما، بالمصادفة، زنبيل مليء بالقَرُو، فصار كل واحد منهما يمد يده إلى الزنبيل، ويحمل تينة (قروة)، يأكلها، على الرغم من أنها ليست لذيذة على الإطلاق، ثم يأخذ أخرى.. واستمرا بتناول حبات القَرُو بلا اكتراث، حتى أجهزا على محتويات الزنبيل، وبعد قليل أطل على الدكان فلاح، ألقى السلام، وقال:
- يا أبو الناجي، إذا عندك قَرو، زن لي ثلاث كيلوغرامات، أريد أن أطعمه للجحش.
فضحك أبو الناجي، وقال:
- كان عندي زنبيل ملآن بالقرو، ولكن الشباب (وأشار إلى أبو الجود وأبو طلال) أكلوه!
فغادر الرجل الدكان وهو يكلم نفسه متعجباً من أن يكون الشابان اللذان ذكرهما أبو الناجي من جنس البشر، ويأكلان طعام الجحاش!
وكان أبو الجود يعاني من نقص السمع، وعنده قصص كثيرة عن مواقف غريبة نتجت عن السمع، وقد راجع عدة أطباء مختصين بأمراض الأنف والأذن والحنجرة في إدلب، وحلب، ودمشق، وكلهم نصحوه بوضع سماعات في أذنيه، إلى أن جاء زبون، ذات يوم، إلى دكان أبو الناجي سختيانة، وقال له:
- أبشر أبو الجود، مشكلة أذنيك أصبحت محلولة بإذن الله.
قال: كيف؟
قال: قبل سنتين جاء إلى مدينة معرة النعمان طبيب مختص بأمراض الأذن، وصار يشتغل، واكتسب، بسرعة البرق، شهرة واسعة بأنه يستطيع معالجة حتى أمراض الأذن المستعصية، وبالأخص نقص السمع.
سر أبو الجود بهذا الخبر، وقال للرجل: عندك رقم عيادته؟
- نعم عندي. خذ.
وناوله بطاقة صغيرة عليها عنوان العيادة في المعرة، ورقم التليفون.. وخلال أقل من ساعة، تمكن أبو الجود من الاتصال بالعيادة، وحصل على موعد في اليوم التالي، الساعة الثالثة ظهراً.
ولم يكن أبو طلال يرافق صديقه أبو الجود في مشاوير الأكل والشراب فقط، بل في كل مشاويره، حتى الطبية العلاجية، وعلى هذا الأساس، ذهب الثنائي، في تمام الساعة الواحدة من اليوم التالي، لمراجعة الطبيب، على أساس أن يصلا قبل الموعد بقليل، لكيلا يتأخرا.
المهم، وصل الصديقان الظريفان المعرة، ونزلا في الكاراج، ومشيا باتجاه العيادة، وقبل وصولهما بقليل، أخذت رائحة اللحم المشوي تقتحم مناخيرهما، وشاهدا سحابة من الدخان المحمل بروائح الشواء الزكية تنبعث من دكان أحد القصابين، وبدون أن يدور بينهما أي كلام، أو اتفاق، دخلا دكان القصاب، وجلسا، وطلبا كيلو من اللحم المشوي المشكل (شقف وكباب وسودة معلاق)، وانتظرا حوالي ربع ساعة، وهي الفترة اللازمة لاكتمال الشوي، أثنى خلالها كلٌّ منهما على تصرف الآخر، وعدم احتجاجه على الدخول إلى دكان القصاب، بالرغم من اقتراب موعد الطبيب، وقال أبو طلال ما معناه أنه لو كان الطبيب يفتح اليوم، ويغلق عيادته إلى الأبد، لكان من الضروري مقاومة روائح الشواء، والدخول إلى العيادة، ثم مَن يدري؟ قد نأكل ونشبع، ونذهب إلى عيادة الطبيب، فيستقبلنا على الرغم من كوننا متأخرين.. فجاوبه أبو الجود بأن الحق، كل الحق معه، وافرض، في أسوأ الأحوال، أننا لم نذهب إليه اليوم نهائياً، أين المشكلة؟ سيارات النقل العام بين إدلب والمعرة شغالة، والهواتف شغالة، نتصل به، ونأخذ موعداً جديداً ونأتي. أصلاً معالجة نقص السمع ليست إسعافية.
واستمرا على هذا المنوال من تبادل المسوغات، حتى حضر الطعام، وباشرا فيها بطريقة (يا هالك، يا مالك، يا قَبَّاض الأرواح)، وبعدما انتهيا، غسلا أيديهما، واتجها إلى العيادة، وكانت الساعة تقارب الرابعة، وقبل صعودهما الدرج شاهدا رجلاً نازلاً، سألاه إن كان الطبيب لا يزال موجوداً، فقال لهما: أنا الطبيب. أخبراه بأنهما اضطرا للتأخر عن الموعد لـ"أسباب قاهرة"، فاعتذر منهما بلباقة، وأخبرهما بأنه ذاهب إلى المستشفى، لأن لديه عمليات.
سأله أبو الجود: معك سيارة حكيم؟
قال: نعم.
قال: ممكن تتكرم علينا وتوصلنا، بطريقك إلى كراج إدلب؟
وافق الطبيب، فصعدا معه، وسار بهما نحو الكراج، وفي الطريق فرط من الضحك عندما أخبراه بالحقيقة، وهي أن "الأسباب القاهرة" التي أخرتهما هي رائحة اللحم المشوي المنبعثة من دكان جاره القصاب!