هاتوا الفلوس وادفنوه هناك

03 ديسمبر 2016
+ الخط -

يحك نادر رأسه بخنصره، ويدفع بجسده غريزياً إلى الأمام، فيصيب الطاولة الفاصلة بيننا، ويقول محرجاً:

- الآن أحكي القصة التي وعدتُك بها، ولكن أرجوك أن تفهمها جيداً.

وإذ يلاحظ أنّه شكك بمقدرتي على الفهم السريع، يستدرك قائلاً:

قصدي أن تأخذ "الدوافع والنوازع" بالاعتبار، فلا تطلق علينا، أنا وإخوتي ووالدتي، حكماً قاسياً.

كان يريد أن يروي لي تفاصيل وفاة والده في "الكويت" العام الفائت... عبارة أفلتت منه، ربما من دون تفكير، إذ قال لي:

- ثمة قصة طريفة تفيدك في فنك القصصي.


وأنا تمسكت بالوعد، وصرت كلما التقيتُه أدعوه لاحتساء فنجان قهوة مع نفس تنباك في المقهى، أو أدعوه إلى البيت للغداء... وكان يختلق الأعاذير، فأزين له الجلوس تحت العريشة في جبل الأربعين الذي يرتفع تسعمئة متر عن سطح البحر، حتى إنك تضطر لارتداء المعطف في عز الصيف، ومآكل أبي أرتين الشهية، والمقبلات المتنوعة، وأخصها الكبة النيئة، والأجنحة المغطسة بالحامض والطحينة، والوجوه الحسناء التي تطالعك أنى تلفتَّ، لكأن الوجوه القبيحة ممنوعة من دخول المكان تحت طائلة الحجز والحمل بالرافعة!

وهو يتهرب متذرعاً بإكمال معاملة حصر الإرث، أو بالإشراف على محطة الوقود التي باشر المرحوم بإنشائها الصيف الماضي، أو بتخليص الرصيد النقدي الذي كان للمرحوم في البنك، وخصوصاً أنه مات قبيل صدور المرسوم الذي يعفي الأرصدة المالية من ضريبة التركات بأيام.

قال لي في آخر لقاء قبل هذا، راسماً على وجهه ابتسامة ذكية جداً:

- لو أنه أجلها أسبوعين فقط، لوفر علينا الكثير من الجهد والمال.

لم أفهم، فسألته: يؤجل ماذا؟

قال: وفاته! فيها شيء لو أننا أعفينا من ضريبة التركات ومقدارها خمسون ألف ليرة؟

وأقول له بينما النادل يضع أمامنا أطباق الطعام والمقبلات:

- إنني مصغ إليك، ولسوف أقدر الدوافع والنوازع حق قدرها بالتأكيد. تفضل.

فيزفر ويقول لي: كل الحق على العم رأفت.

فأقول له: ومن يكون العم رأفت بلا صغرة؟

فيقول وهو يعلق حبة زيتون بين أسنانه: زميل أبي في الكويت، هو الذي أبلغنا بالخبر المشؤوم.

قلت: ولكن...

قاطعني قائلاً: أعرف أن من واجبه إبلاغنا بنبأ الوفاة، ولكن كيف يموت هو، أقصد أبي، هكذا، من دون سابق إنذار؟ تصور! بيتي في الجمعية كان يكفيه 2000 دينار فقط وينتهي. والمسكينة أمي، هل تدري ماذا حل بها؟ لقد دفعت عربوناً لصاحب السوبر ماركت الذي اشترته ووعدته بإكمال الثمن مع رجوع أبي في أول الصيف ومعه غلة السنة.

تبسمت رغماً عني وسألته:

- أي، وإخوانك الآخرون، أليس لهم مصالح تعطلت؟

قال مغتاظاً: مشاريع سخيفة جداً. أخي ظافر خطب فتاة أهلها طماعون جداً. خرب بيتنا الله وكيلك. من يوم كان أبي حياً وطلباتُهم لم تهدأ. والأدهى من ذلك أن المرحوم كان يؤثره بالمحبة ويلبي له أتفه الرغبات. ومع ذلك رفض، بإيعاز من حماته أن يدفع خمسة آلاف ليرة من أجل أبيه.

قلت مستغرباً: لماذا يدفع؟ ألم يكن الوالد مقتدراً؟

قال: كان مقتدراً وهو حي، ولكن العم رأفت، سامحه الله، هو الذي أوقعنا في المأزق. لم يكتف بأن أبلغنا بوفاة الوالد المفاجئة، بل زاد عليها أن الجثة يجب أن تنقل إلى الوطن.

قلت: هذا شيء طبيعي.

قال: جداً، ولكن تخيل، ونحن غارقون بالبكاء ولطم الخدود، فرحيل الوالد ليس أمراً سهلاً؛ قال إن نقل الجثمان يكلف ثلاثة آلاف دينار.

قلت متوقعاً حدوث الشيء الذي يتحرج نادر منه منذ البداية:

- أرجوك لا تقل لي إنكم لم تدفعوا المبلغ!

قال بصوت غاضب: من أين ندفع؟ وهل كان أحد منا يملك أي مبلغ نقدي؟ كنا دائماً نأخذ من الوالد ونوظف ما نأخذه كل في مشروعه.

قلت: ودفنتموه هناك؟

قال: لم نكن لنوافق على الفكرة رأساً، لكن أخي سمير حلها بسهولة.

قلت: كيف؟

قال: لقد أسعفنا بفكرة، بصراحة لم تكن قد خطرت في بالنا قط. قال إن أرض الكويت جزء لا يتجزأ من أرض الوطن العربي الكبير، وإن دفن الوالد هناك يعزز الشعور القومي!

قلت حزيناً: هذا صحيح، ولكننا دائماً نجد مسوغات لأفعالنا السيئة في الأفكار العظيمة. المهم أنكم أبلغتم العم رأفت بما توصلتم إليه من قرار.

ههنا يضحك نادر ويقول لي: ليت الأمر انتهى عند هذا الحد. فلقد لجأ العم رأفت إلى تعقيد المشكلة من جديد.

قلت: كيف؟

قال: لقد قلت له في الهاتف "ادفنوه هناك"، ومضينا كلٌّ إلى عمله، معتقدين أن كل شيء قد انتهى. ولكنه فاجأنا في اليوم التالي باتصال عجيب. قال إنه وزملاءه، من فرط ما كانوا يحبون الوالد، جمعوا مبلغ ثلاثة آلاف دينار، من أجل نقل جثمانه إلى الوطن.

قلت: عظيم، إذن لقد نقلتم الجثمان.

تردد نادر في الإجابة لحظة ثم قال: لا بد أنك عرفت كل شيء عن مشاكلنا المعلقة، والدوافع والنوازع.

قلت: بالتأكيد. ولكن ماذا قلتم للرجل؟

أمسك نادر بقطعة الخبز استعداداً للبدء بالتهام الطعام وقال لي:

قلت له: إذا سمحت أرسل لنا المبلغ الذي جمعتموه، وادفنوا الوالد هناك!!!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...