مصر يما يا بهية
كنت أقول لصديقي الناقد المتشدد، الذي يرفض أن يصنف الشعر المحكي في خانة الشعر، إن بعض المقاطع الشعرية الغنائية تتحقق فيها شروط الشعر الفصيح نفسها، من وزن وقافية وصور، فلماذا ترفضونها؟
- ما دليلك على أن شروط الشعر الفصيح متحققة فيها؟
- الوزن والقافية والإيقاع والموسيقى الداخلية تبدو أكثر وضوحاً في الشعر المحكي من الشعر الفصيح، وأما من جهة الصورة الفنية.. طلبتُ منك بالأمس أن تتخيل (الليل)، في قصيدة "تحت السجر يا وهيبة" التي كتبها عبد الرحمن الأبنودي، وهو "ينعِس" على البيوت وعلى الغيطان، فلا هو معتم مدلهمّ، ولا هو مضاء واضح المعالم، كأنه إنسان من لحم ودم، يقاوم النعاس.. وثمة مقطع في قصيدة "عَدَّى النهار" التي غناها عبد الحليم حافظ، بعد نكسة حزيران / يونيو 1967، من شعر الأبنودي نفسه، يقول:
عَدَّى النهار
والمَغْرِبِيَّة جايَّة تتخفى ورا ضهر الشجر
هل تخيلت (المغربية) وهي تتخفى وراء الشجر، وكأنها إنسان مُلَاحَق، يجيء متسللاً لا يريد أن يكتشف وجوده أحد؟
- أعترف أنها صورة مبتكرة.
- أجل، وللعلم؛ إن قصيدة "عدى النهار" تمشي بنا في اتجاه آخر، وهو ميل الشعراء المصريين عموماً إلى تمجيد بلدهم مصر، ولكن بلغة خالية من الخطابات والزعيق، بل إنه ينطوي على صورة شعرية جميلة.. ويقول الأبنودي:
وبلدنا عَ الترعة بتغسل شعرها
جانا نهار ما قدرشِ يدفعْ مهرها
يا هل ترى الليل الحزين
أبو النجوم الدبلانين
أبو الغناوي المجروحين
يقدر ينسّيها الصباح؟
- يا سلام. إنه، هنا، يعبر عن الحزن بالصور الفنية، فتكون الأغنيات مجروحة، والنجوم ذابلة.
- نعم. ولا تنس، من جهة أخرى، أن تشبيه مصر بالمرأة الجميلة موجود عند كثير من الشعراء الذين يكتبون بالمحكية. انظر، مثلاً، إلى الصورة الشعرية التي أبدعها أحمد فؤاد نجم، إذ قال:
مصر يَمَّا يا بهية
يا أمُّ طرحة وجلابية؟
- حلوة، ولكنني الآن أتخيل النشيد المكتوب بالفصحى في تمجيد لمصر أحسن من هذا.
- أي نشيد؟
- النشيد الوطني (بلادي بلادي) الذي يقول:
مصر يا أم البلاد، أنتِ غايتي والمرادْ
وعلى كل العبادْ، كم لنيلك من أيادي
- أوافقك على أنه شعر جميل، ولكنه خالٍ من الصور. على كل حال أنا أعرف قصة هذا النشيد بالتفصيل.
- بجد؟ ما هي؟
- كتبه الشاعر محمد يونس القاضي، ولحنه سيد درويش، بمناسبة عودة الزعيم سعد زغلول باشا من المنفى، ولكن، وبينما كان المشرفون على حفل الاستقبال يجهزون فرقة الكورال، لتلقيه في استقبال الزعيم، مات سيد درويش، وكان ذلك في العام 1923.. وبعد 55 سنة، عندما عاد أنور السادات من القدس، قرر تغيير النشيد الوطني الذي كتبه صلاح جاهين ولحنه كمال الطويل، "والله زمان يا سلاحي".. وبالتشاور مع أركان حكمه، قرروا العودة إلى نشيد "بلادي"..
- جميل.
- دعنا نَعُدْ الآن إلى موضوع الصور الشعرية التي يمكن أن يعثر عليها الباحث في الأغاني، سواء المكتوبة بالعامية أو الفصحى. لقد كتب الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572- 1635)، "يا قمرة مشغرة"، ولحنها الأخوان الرحباني، وشدت بها فيروز. وقد لفت نظري المقطع الذي خصصه لوصف بلدته "بْعَقْلِيْنْ"، ويقول فيه: يا جبهة العالية، وميزَّرة بالغيم. وبما أنك ضليع في اللغة العربية، فلا ريب أنك تعرف أن أصل كلمة (ميزرة) هو مُؤْتَزِرَة، أي أن البلدة تلتف بإزار من غيوم، وعند الأخوين الرحباني، نجد أن الغيم يضحك، كما في قولهما: ويضحك عَ هالعَلْوَات غيم بنفسجي، والأخوان الرحباني يذكراننا بالمتنبي حينما كتبا وغنت فيروز (بكره إنت وجاية راح زَيّنْ الريح).. هل تخيلت كيف تكون عملية تزيين الريح؟ وأنت تعلم أن المتنبي هو الذي قال: على قلق كأن الريح تحتي.
- والله يا أبو المراديس إنك تلتقط أفكاراً مدهشة.
- شكراً لك. أريد أن أسألك عن مثل شعبي يستخدمه أهلنا، يقول: فلان استيقظ قبل صياح الديك.
- ياه! إنه تعبير بديع، مشتق من الواقع، ففي الأرياف، بمجرد ما ينبلج الصبح، تبدأ الديوك بالصياح، وكأنها تريد إيقاظ الناس لكي يذهبوا إلى أعمالهم، وبعد صياحها تدب الحركة في كل مكان.. وأحياناً يقولون: فلان استيقظ قبل أذان الديك.
- نعم.. ولعلمك؛ هذا الجو الصباحي البديع يرسمه الشيخ سيد درويش في أغنية "الحلوة دي"، فالصبية الحلوة قامت تعجن، لكي تجهز الخبز لأسرتها، والديك بيدَّنْ كوكو كوكو..
- ماذا تعني كلمة "بيدَّنْ"؟
- تعني يؤذّن، وهذا يؤكد قولك إن بعض الناس يستيقظون قبل (أذان) الديك. وهناك شعراء مصريون لا يولون الصورة الكثير من الاهتمام، فتأتي متأخرة في سياق القصيدة، كما في أغنية "خَلِيّ القلب" التي كتبها مرسي جميل عزيز لعبد الحليم حافظ، بعد التعارف الذي جرى بينهما عن طريق محمد الموجي، وفيها تتدفق الجمل العاطفية العادية: يا خلي القلب، يا حبيبي، لو في قلبك قَدّ قلبي حب.. وهكذا حتى يصل إلى صورة فنية وحيدة هي (نسكن لؤلؤة في أبعد بحار).. ومرسي جميل عزيز، أبدع، في مكان آخر، صورتين شعريتين جميلتين نادرتين، الأولى في قصيدة غناها عبد العزيز محمود، وفيها أن الحبيبة تضع على رأسها منديلاً، والمنديل نفسه يُعْجَبُ بجمالها، ويكاد أن يأكل من حاجبها قطعة (حته)، وفي القصيدة ذاتها يقول مخاطباً المرأة: يا اللي كعابِكْ، فوق قبقابِكْ، ورد في مَيَّة (أو وردة في ماء). وهذا العمل، أعني التغزل بالكعبين، ينطوي على شجاعة استثنائية كان المبدع الكبير داود حسني قد سبق مرسي جميل عزيز إليها، حينما كتب ولحن لمنيرة المهدية أغنية البنت الشلبية (التي اقتبسها منه الرحبانيان فيما بعد)، وفيها يقول:
أنا أبوس إيديكي
وكعوب رجليكي
بس ارضي عليي.
وهي نفسها التي اقتبسها صباح فخري عندما غنى:
العزوبيّة طالت عليّة
(للحديث بقية)