محمد علي فريكة: أنا مغفل

06 ابريل 2017
+ الخط -
أعتقد أن شخصية محمد علي فريكة هي من الشخصيات الكوميدية الراقية، فعقله ينشط دائماً في صناعة المواقف الكوميدية، ثم يُغْنيها بتعليقاته اللاذعة، وحينما يرويها، بعد وقوعها، تَظهرُ معلميتُه في الإضحاك إذ يقدم ويؤخر ويصغِّر ويكبِّر حتى يصل إلى ذروة القفلة المدهشة التي تثير عاصفة من الضحك اللذيذ.. على عكس الشخصيات الغبية الساذجة التي تساهم في صناعة الضحك من حيث لا تدري.

كانت القرية التي نشأ فيها محمد علي وترعرع أشبه ما تكون بالجزيرة التي تحدث عنها (دانيال ديفو) في روايته "روبنسون كروزو"؛ فعدد السكان قليل إلى درجة أن كل مواطن فيها يعرف الآخرين ويستطيع أن يصفهم ويعدد أسماءهم وأسماء نسائهم وأولادهم، ولا ماء فيها سوى ماء الآبار الراكدة، ولا كهرباء، ولا هواتف، ولا شوارع مزفتة..

وكانت البيوت تبنى من حجارة مصنوعة من الطين المجفف، وتطلى من الخارج بالطين المقوى بالتبن الخشن (القَصْرينه)، وأما هندستها فبدائية، وهي قلما تحمي ساكنها من شمس أو مطر أو دلف أو تهيء له إضاءة أو تهوية أو سهولة في الحركة، وكل منزل يتألف من جناحين، أحدهما للبشر، والثاني للبقر والحمير والبغال والدجاج، وهذا الأخير، أعني الدجاج، ليس من عادته أن يتقيد بالحدود التنظيمية للبيوت إذ غالباً ما يجتاز السور الفاصل بين الجناحين ويمضي جل وقته وهو يسرح ويمرح ويرعى ويقوقئ ويسلح (يتبرز) في الجناح الآدمي، بينما ترسل البقرات السائبات في الزريبة، بين الحين والآخر، أصواتاً يتراوح مدلولها بين الرجاء والاحتجاج والاستنكار والتعبير عن الجوع أو العطش أو الضيق، وأما إذا نهق الحمار. فالدجاج، على الرغم من طول الإقامة والمعاشرة بين الطرفين، سرعان ما يقفز من أرضه مذعوراً مستفزاً ويشرع بالقوقأة التي تعطيك شعوراً بالفوضى واضطراب الحياة على الرغم من الاستقرار والهدوء الدائمين المُمِلَّيْن.

قال لي محمد علي على سبيل التقديم لقصة مضحكة:

- يقولون عني إني ذكي ومفتِّح وحاضر البديهة، ولكن أرجوك لا تصدق هذا الحكي، فأنا مغفل.

قلت: بدليل؟

قال: بدليل ما سأرويه لك الآن:

- كان الوقت، يا أستاذ، أواخر الشهر الهجري، والظلام نزل على القرية فأعماها إلى درجة أنك إذا نكشت الضبعةَ في عينها لا تراك ولا تعرف مكان وقوفك! وكانت السماء تمطر رذاذاً خفيفاً، والبرد يقص المسمار. وأنا ارتديت ثياباً لا يقل وزنها عن رطلين، ولبست جزمتي الرباطية ذات الساقين الطويلتين، وتسلحت بالمصباح ذي الطقتين وخرجت من البيت. إلى أين أذهب في مثل هذا الجو؟ قلت لنفسي إن أفضل حل هو أن أذهب لزيارة صديقي أبي نادر الذي يعاتبني كلما رآني لأنني لا أزوره. 

عفواً.. نسيت أن أقول لك إن الطين في قريتنا يختلف عن الطين في القرى المجاورة كلها، فبمجرد ما تدوس بإحدى قدميك فيه فإنها تغوص، وتعلق فردة الجزمة، وتدوس بالثانية وتهم بالتقدم فتشعر بأن الطين شرع يُشَلِّحك الفردةَ الأولى، تندفع أكثر فيشلحك الفردة الثانية، فلا تجد بداً من أن تقرفص وتقتلع الفردتين من الطين وترتديهما مجدداً، وتتابع سيرك وأنت تسمع صوت قدميك وهما تصدران صوت: فش.. بجق.. فش..!!

ضحكت، فتابع محمد علي يقول:

- وحينما وصلتُ اتضح لي أن صديقي أبا نادر قد فرش بالقرب من بيته طريقاً صغيراً بالبحص والحجارة الغضارية الصغيرة التي تزيد طين القدمين المبتلتين بالماء بلة، ينتهي الطريق بحافة زلقة بمجرد ما دستُ عليها وجدت نفسي أتزحلق وأزحط على ظهري بضعة أمتار وأصطدم بباب منزل أبي نادر الذي لعنته في سري ولعنت اللحظة التي فكرت فيها بالخروج من بيتي لزيارته في هذا الجو الكئيب.

وعلى ما يبدو فقد سمعت زوجة أبي نادر صوت ارتطامي بالباب فصاحت بلهجتها الحلبية المميزة:

- منو هاد؟  

قلت لها وأنا محطم من شدة التزحلق والارتطام بالباب:

- أنا المحافظ!

شهقت السيدة أم نادر شهقة طويلة وقالت لنفسها:

- يَمَا يَيْ! إش جاب المحافظ لعندنا؟!

ختم محمد علي قصته بالقول: 

- صدقني لم أنزعج من العتم والبرد والطين والزلق والوقوع على ظهري والاصطدام بالباب بقدر ما انزعجت من أم نادر التي صدقت أن من يزورهم في هذا الجو العجيب هو المحافظ! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سيرة مسلسلة- يتبع

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...