عندما خرج الحماصنة للفرجة على "منع التجول"
تحدثنا في جلسة الإمتاع والمؤانسة التي انعقدت في منزل "أبو إبراهيم" عن (الفُرْجة). قال الأستاذ كمال ما معناه أن الإنسان بطبعه ميال إلى الفرجة، وإن فكرة "صندوق الدنيا" القديمة كانت تتلخّص بلصق صور على شريط من الورق، ووضعها ضمن صندوق، والصندوق له فتحات تلتصق بها أعين الأطفال الذين يأتون لأجل الفرجة، ويجرى تحريك الشريط في داخل الصندوق مع وجود إضاءة توحي بأن الصور مأخوذة من السينما، والعبارة التي كان يرددها صاحب الصندوق هي: تعا تفرج يا سلام..
قلت للسامرين: الأستاذْ كمالْ فتح سيرة ظريفة بالفعل. وأنا بتذكرْ أنُّه مطلع رواية ماركيز "مئة عام من العزلة" بتقول: عندما وقف العقيد أوريليانو أمام فصيل الإعدام تذكر عصرَ ذلك اليوم البعيد حينما اصطحبه أبوه للفرجة على السيرك واستعراضات الغجر.
قال أبو إبراهيم: في بعض الأوقاتْ موضوعْ الفرجة بحد ذاته بيخليك تضحك. مثلاً، أنا سمعتْ حكاية قديمة عن الفرجة، بتقول إنه أهلْ حمصْ كان عندهم فضولْ يتفرجوا على أي شي بيسمعوا فيه، ومرة من المرات، على زمان الدولة العثمانية، صارتْ مشاكل في المدينة، فأعلنْ المنادي أن والي حمص أصدرْ فرمانْ على أنه ممنوع يطلع حدا من بيته. الخروج من البيت يَسَقْ - Yasak، يعني ممنوعْ.باختصارْ، الفرمان كان بينصّْ على "منع التجول"، والأهالي ما بيعرفوا أيش معنى هالكلمة التركية، وطلعوا كلهم للشارع، رجال ونسوان وأولادْ، ولما أجتْ دورية من الشرطة الجندرمة وسألتهم: ليش طلعتوا؟ قال له واحد منهم: والله يا أخي نحنا طلعنا حتى نتفرجْ عَ الـ يَسَقْ..
قال أبو الجود: الفرجة بتصير في كل وقت، وفي ناس بيدفعوا مصاري حتى يتفرجوا ع المسرح، أو السينما، أو مباريات كرة القدم.. وفي أيام الولدنة كنا ناخد الخرجية من أهالينا ونروح في العيد على بازار معرتمصرين حتى نتفرج عَ السعدان (القرد). وكنا نضحك وننبسط لما القَرَّادْ يطلب من السعدانْ إنه يْمَثّلْ للموجودين كيف بتعجن الصبية وشلون بتنام المرأة العجوز.
قال أبو زاهر: الفرجة في الدول الديمقراطية الراقية عملية مسلية، ومفيدة، وبترفع من معنويات الفرد، وبتخليه على طول مستعد للعطاء والإبداع. أما تعا شوف الفرجة في سورية شْقَدّهَا خطيرة، وأحياناً مرعبة.
قال أبو محمد: أنا ما فهمت عليك أبو زاهر. يعني إذا الشغلة خطيرة ليش حتى الإنسان يتفرج عليها؟
قال أبو زاهر: غالباً الفضول يدفع الناس للفرجة. بدي إحكي لكم عن حادثة مرت معنا لما كنا في تدمر. السجين في تدمر كان ما يسترجي يتلفت يمين أو يسار، وما بيجوز يتطلع لفوق لأنه في حارس مناوب على السطح في الليل والنهار. والعقوبات هناك مو ممكن الإنسانْ يتصورها على قد ما هيي مؤلمة ولئيمة. أقل شي كان السجين ينضرب بالكابل الرباعي. ومع هيك عنصر الفرجة كان يغري بعض الشباب بشكل غريب.
قال أبو جهاد: فرجة في سجن تدمر؟ على أيش مثلاً؟
قال أبو زاهر: جاييك بالكلام. في بداية وجودْنا في السجن كانوا بعض السجانين يجوا لعندنا عالمهجع ويقروا أسماء شباب من المعتقلين. وياخدوهم ويطلعوا من المهجع. ويمر يوم ويومين وأسابيع والشباب اللي أخدوهم يبقوا غايبين، ما يرجعوا. وخلال التنفس كنا نسأل الشباب اللي في المهاجع التانية عنهم، فيقولوا لنا والله ما شفناهم. ويقولوا لنا كمان إنُّه نفس الحادثة صارت في مهجعهم، يعني إجوا السجانين وقَرُوا أسماءْ بعض الشباب وأخدوهم. والحقيقة إنه ما كان حدا في كل المهاجع يعرف لوين عم ياخدوا هالشباب. في مهجعنا كان في شاب اسمه "صبحي" وقف مرة في المهجع وقال:
- بعاهد الله وبعاهدكم إنه أعرف وين عم ياخدوا زملاءنا..
وصار كل يوم يجمع أكياس النايلون اللي بيجيبوا لنا فيها الأطعمة ويخبيها تحت المَفْرَش اللي بينام عليه، لحتى صارْ عندُه كمية كافية من الأكياس، وبلش يجدلها متلما الصنايعية بيجدلوا حبال القنب. وفي مرة كانت (فترة تبديل الحراس) طلب مساعدتنا، ورفعناه على أيدينا لحتى وصل للنافذة الفوقانية، وربط رأس الحبل فيها، وخَلّى الحبلْ سايبْ لتحت، وعمل تجربة سريعة، تعربشْ ع الحبل، وطلعْ لفوقْ لحتى تمكن من النظر إلى باحة السجن الخلفية من النافذة، ونزل. وبعد كم يوم أجوا السجانين وأخدوا تلاتة من شباب مهجعنا، وراحوا. عَ السريع تعربش صبحي وطلع عالنافذة الفوقانية وصار يراقب الساحة، فشاف هديكه الشوفة اللي بِتْخَوِّفْ..
قال أبو محمد متشوقاً: أيش شاف؟
قال أبو زاهر: كان في أكتر من عشر شباب، آخدينهم من عدة مهاجع، وعلقوهم بالمشانق!