طوط وحمودة وفقاسة

01 يوليو 2024
+ الخط -

(سيرة الظرفاء 12)

قلت:

- لا ينام أبو سليمان الطوط في الليل، يفكر بإيجاد عروس تناسب صديقَه؛ ابنَ حارته "أبو جويّد". وهذا الأمر، بحد ذاته، مُسَلٍّ، وغريب، إذ لا توجد صلة قرابة تجمع الرجلين، ولم يكونا ذات يوم على مقعد واحد في المدرسة، فأبو سليمان أكبر سناً من أبو جويد، وغير متعلم أصلاً، وأبو جويد غادر المدرسة في الصف الثامن، ومع ذلك، تجد بين الرجلين ذلك التواطؤ المضحك المتعلق بالزواج، الذي نتج عنه حكايات تحولتْ، مع الزمن، إلى ما يشبه الحلقات الكوميدية المسلية.

قال أبو سعيد:

- من حق أبو جويّد أن يزجر أبو سليمان، ويقول له إن بقائي دون زواج أمر شخصي، ولا يحق لك التدخل فيه، ولكنه، على ما يبدو، وبسبب عجزه عن إيجاد امرأة تقبل به، كان يبتهج لفتح سيرة النسوان، ويجد في مشاريع الزواج الخنفشارية التي يأتي بها صديقُه تعويضاً عن حرمانه من العيش مع امرأة تحبه ويحبها.

- ربما كان تحليلك صحيحاً، يا أبو سعيد، ولكنني، ومن خلال معرفتي الطويلة بأبو جويد، أعرف أنه يحب صنع المواقف المضحكة أكثرَ من حبه الحديثَ عن المرأة والزواج. وأما أبو سليمان الطوط فكان يتسلى بهذا الوضع غير الطبيعي، الذي يمتاز بالاستعصاء والعناد، ولم يكن يكتفي ببحث الأمر مع صاحب العلاقة، بل كان يفتح السيرة ذاتها في المقهى، ويقول للأصحاب:

- يا أخي هذا أبو جويد ملبكني ومتعبني وهالكني. طول النهار أنا غارق في البحث له عن زوجة ينستر معها، وهو غير مبال، وكأن العرس لجيرانه. ولكن، على كل حال لن أتركه، وبإذن الله سأكسب به ثواباً وأزوجه أحلى زيجة.

ثم يحكي لهم تفاصيل آخر محاولة فاشلة قادها بنفسه، وكان فشلها محتوماً بسبب إفلاس أبو جويد ونحسه الأزلي.

وعلى كل حال، يا أبو سعيد، دعنا ننتقل من حقل التحليل والتفسير إلى حقل الحكايات، والحكاية، لعلمك، تنطوي على تأريخ أدبي شعبي لما كان يجري في مجتمعنا.

- معك حق. تفضل.

- ذات يوم، كان أبو جويد يحمل بيديه كمية لا يستهان بها من الأغراض التي أوصته عليها والدتُه، وكان الطقس حاراً، والعرق يزرب من القسم الأعلى من جسده، ويسيل فينزل عبر ساقيه إلى فردتي حذائه العتيقتين، وفجأة ظهر أبو سليمان، قادماً من تحت "السيباط"، باتجاه ساحة الخضار التحتانية، وكانت له عادة ذميمة، وهي أنه يحب السلام على أصدقائه بطريقة المباوسة، وقبل أن يقترب، نهاه أبو جويد عن التبويس، وقال له:

- بلا مباوسة دخيل عينك. إذا لامستني ستقع الأغراض على الأرض، ولا نستطيع أن نجمعها.

-  طيب يا سيدي، ما هي بمشكلة، ولكنني، مع ذلك، أريد أن أسألك سؤالاً، وأريد منك أن تجيبني عليه بصراحة.

- تفضل اسألْ.

- عندما توفي والدك، هل كان راضياً عنك أم لا؟

- كان راضياً، الحمد لله.

- والست الوالدة، أطال الله عمرها، أكيد راضية عنك، لأنك تشتغل وتتعب أكثر من جحش، حتى تحصّل بعض النقود، لتصرف على نفسك وعليها، فلماذا لا ترضى عنك؟ المهم أنني، وبفضل رضا والديك عليك، عثرت لك على عروس، وكأنها مصممة أساساً، على مقاسك، أخي، من الآخر، "حمودة" لك، على قولة المثل: حفر وتنزيل!

ضحك أبو جويد عالياً، وقال: العروس اسمها حَمُّودة؟

- أنا مثلك، عندما سمعت هذا الاسم استغربت، وسألت، واستفسرت، فقالوا لي إن اسمها الأصلي حَمدة، أو حَميدة، وكانت المرحومة والدتُها تدلعها باسم "حمودة". وبصراحة، هذا أمر ثانوي، المهم عندي أنها مناسبة لك مثل الطنجرة التي تلاقي غطاءها.

ذكرت لك سابقاً، يا أبو سعيد، أن أبو جويد يستطرف مشاريع الطوط الخنفشارية، ولذلك سار معه حتى وصلا إلى أمام حمام المحمودية، وأنزل حمولته، وصففها على المقعد الحجري في مدخل الحمام، وقال:

- لا تقل لي إن جمالها يكسر 75 فقرة من الظهر، مثل تلك التي حدثتني عنها المرة الفائتة.

هذه المرة أبو سليمان هو الذي ضحك، وقال:

- أنا شفت في حياتي رجالاً بهائم كثيرين، ولكن مثل بهامتك ما شفت. لو كانت جميلة، وتكسر الظهر كما تقول، هل يعقل أن تقبل بواحد مفلس وزملُّوطي ومنحوس مثلك؟

- لا تقبل طبعاً.

- ولكن، هل تريد الحق أم ابن عمه الباطل؟

- أريد الباطل!

- احك مثل الخلق والناس، تضرب في منظرك، مثل منظر الخابية المشرّشة. يا طشنة، لو كان على وجه حمودة (لحسة لبن) هل كان الأغنياء وأبناء العائلات الراقية يتركونها لواحد مقمل مثلك؟

- لا يا عمي أبو سليمان، لا، الآن زعلت منك. صحيح أنا فقير وزملوطي، ولكنني "نضايفي"، والله العظيم طوال عمري ما قَمَّلت. والآن، إذا سمحت، اعطني نبذة عن هذه المرأة، حمودة، التي إذا تزوجتها سأغير لها اسمها في الحال.

- لماذا تغير اسمها؟

- بصراحة، هذا اسم رجالي، لي صديق يعمل عتالاً بالأجرة، اسمه حمودة البخاخ.

- يا سيدي، بعدما تتزوجها غير اسمها، تضرب في موديلك وموديل حمودة البخاخ. المهم، سألتني عن مواصفاتها. عمرها 32 سنة، يعني هي أصغر منك بكثير، وجمالها (نص على نص)، ولها حكاية عجيبة، إذا سمعتها مني ستبوس يدي وجهاً وقفا، وترجوني أن أذهب إلى أهلها وأطلبها لك في العَجَل.

سحب أبو الجود حجراً كبيراً ملقى في الخرابة المقابلة لحمام المحمودية، نفض عنه الغبار، ثم سحب حجراً آخر، وضعه بالقرب من الأول، وقال: أعرف أن الوقوف الطويل يؤثر عليك، أنت المصاب بالروماتيزم المزمن، اقعد، واحك لي حكايتها بالتفصيل، وبعدما تنتهي، لكل حادث حديث.

جلس أبو سليمان على الحجر المرتفع عن الأرض حوالي نصف متر، وأسند ظهره إلى حائط الحَمَّام، وراح يسرد الحكاية. قال:

- قبل سنتين جاء لخطبتها واحد سرسري، حاشاك، معروف باسم "الفَقَّاسة"، وهو غريب عن إدلب، ووقتها استشارني والدُها، وأنا ذهبت إلى قريته، وسألت عنه، فقيل لي إنه نَصَّاب، وأنا أخبرت والدها بالحقيقة، وقال لي: خلص، لن أعطيه ابنتي حمودة. ولكن، بعد ثلاثة أشهر، التقيته أمام باب المحكمة، وسألته: أشو عم تعمل هون؟ قال لي: بدنا نشوف محامي منشان نطلق حمودة من فقاسة!

فجأة وقف أبو جويد، وبدأ يحمل أغراضه استعداداً للمغادرة. وقال:

- أخي، أنا بطلت أتزوج حمودة.           

- ليش؟

- أنت اسمك الطوط، والعروس حمودة، وزوجها فقاسة! حلوا عني ياه.

 

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...