سيرة العقل والجنون (7)
في سهرة الإمتاع والمؤانسة رويتُ للأصدقاء هذا الفصل الجديد من سيرة الفتى العاقل المجنون فريد ابن أبو خلُّو.
عندما رأى الفتى الأهبل "فريد" والدَه عائداً من الفلاحة، برفقة شقيقيه الكبيرين خليل وأحمد، تعلق بحافة السقيفة الخاصة بالمؤونة، وقفز بطريقة بهلوانية، وخلال ثوان أصبح جالساً بين مرطبانات الجبنة والدبيركة وأكياس العدس والبرغل وتنكات الزيت، وتجمد في مكانه بحيث لا يصدر عنه أي صوت أو نأمة.
قال أبو خلو: قواكي الله يا أم خلو. ما رجع فريد من المدرسة؟
قالت: رجع من زمان. هلق من شوي كان هون. يالله فوتوا، غسلوا وغيروا تياب الشغل، وتعالوا ع العشا.
أم خلو، في الحقيقة، إنسانة لبقة، لم تذكر شيئاً عن مشكلة فريد إلى حين انتهاء زوجها وولديها من تناول الطعام. وكانت قد جهزت الشاي، وسكبت لهم. ثم جلست وقالت:
- أجا اليوم الأستاذ علاء، وسألني إذا كنت بدك تروح عَ سلقين، أو رحت، طلب مني أخبرك تروح لعنده ع المدرسة بكرة الصبح.
كان أبو خلو يتابع كلام زوجته وهو في قمة الاندهاش. قال:
- أنا أشو بياخدني ع سلقين؟ بعدين شلون بدي أروح ع المدرسة بكرة الصبح؟ ما بتعرفي إن عندي فلاحة؟ إذا أنا وخليل وأحمد ما رحنا ع الفلاحة مين بده يجيب مصاري ويطعمي هالعيلة اللي بتكسر الظهر؟
أم خلو: أنا بعرف إن عندك فلاحة، بس الأستاذ علاء وصاني أخبرك، وهلق أنا عم أخبرك.
قال خليل: بقلك شي وما بتزعل مني ياب؟
أبو خلو: قول.
خليل: اللي بيصغّر عقله وبيبعت ولد مجنون ع المدرسة بده يتحمل المشاكل اللي بتجي من وراه.
أبو خلو: خليل معه حق. وينه فريد؟
أم خلو: والله ما بعرف. من شوي كان هون، واختفى. أنا سألت الأستاذ علاء (أشو قصة سلقين؟) ما قال شي. بعدما راح حكى لي فريد قصة غريبة. قال إنه الأستاذ علاء اشترى زيت من بياع في سوق الخانات، وطلع الزيت مغشوش، فتخانق مع البياع..
أبو خلو: طيب أنا أيش دخلني بهالحكي؟
أم خلو: وعلى حسب ما قال فريد إن البياع قال لعلاء: أنا اشتريت هالزيت المغشوش من أبو خلو.
وقف أبو خلو فجأة، وخلال وقوفه أصاب كأس الشاي بقدمه فانسفحت على الأرض، وقال لأم خلو:
- هلق إنتي خرفانة؟ ولا الأستاذ علاء طق عقله؟
واتجه نحو الباب فلحق به ولداه خليل وأحمد، ومشى مسرعاً في الزقاق وهما يلحقان به ويناديان عليه أنت انتظر، ولا تستعجل، وصاح أحمد:
أحمد: طول بالك ياب، ما بتعرف أخوي فريد كداب؟
أبو خلو لم يرد، استمر يمشي بسرعة حتى وصل منزل الأستاذ علاء، وكبس زر الجرس بقوة.. وبعد قليل خرجت زوجة علاء، وقالت:
- أهلين عمي أبو خلو. تفضل.
- ما بدي أتفضل، ابعتي لي الأستاذ علاء.
- ليكه علاء، صار وراك.
كان الأستاذ علاء قادماً من السوق، ورأى "أبو خلو" وولديه قادمين مستعجلين، فأسرع الخطى نحوهم، ودعاهم للدخول، فدخلوا. وعندما سمع من أبو خلو حكاية الزيت المغشوش ضحك، وقال:
- هادا إبنك فريد لازم يصير كاتب، متل نجيب محفوظ وحسيب كيالي. لأن بيألف قصة وبيحبكها بشكل مدهش. اللي صار إن حضرته جاي ع المدرسة ولابس برجليه جاروخ، ولما سألناه عن السبب قال لي إنك ما لقيت حذاء رياضي على قد نمرة رجله في إدلب، منشان هيك رحت ع سلقين لحتى تعمل له بوط.
نفخ أبو خلو نفخة تحرق بيدر وقال لعلاء:
- ع كل حال كويس إني جينا لعندك. خيو، هادا فريد بدنا نبطله من المدرسة. غلطنا غلطة ولازم نصلحها.
ابتسم علاء وقال:
- طول بالك عمي أبو خلو، هادا السبب مو محرز. خلص إنت روح ع شغلك وخلي فريد بأمانتي، أنا بتصرف معه.
أبو خلو: بخليه بأمانتك بس بشرط. هاي الكذبة تبع سلقين ما لازم نمررها. اليوم أنا بعمل له قَتلة في الدار، وأنت يا أستاذ بكرة ارفعه فلقة، واضربه شي مية عصاية.
علاء: ما في داعي للضرب، بيتعقد.
أبو خلو: أشو أشو أشو؟ قلت لي بيتعقد؟ طيب ماشي. على كل حال أنا بدي أعمل له قتلة، وخلي يتعقد على مسؤوليتي. وإذا إنت بتسامحه تصطفل. قوموا يا شباب، خلينا نقتل فريد وننام بكير، بكرة عندنا فلاحة.
لم يتمكن أبو خلو وولداه من تنفيذ الوعد بمعاقبة فريد بالضرب، ففريد كان يعرف، بلا شك، أن والده سيعرف الحقيقة من الأستاذ علاء، لذلك فقد نزل عن السقيفة، واتجه إلى حيث تضع والدته الطعام في النملية، التهم منه ما لا يحسب الحاسب، وخرج، وعندما عبر من أرض الديار أسرعت أم خلو نحوه واستوقفته وقالت له: لوين رايح تقبرني؟
فريد: رايح لعند رفيقي نادر. الأستاذ عبد الله عطانا وظيفة وقال ما بيصير الواحد يحلها وحده. لازم كل تنين يحلوها سوا.
وقبل أن تتمكن من قول أي كلام تعمشق فريد على الجدار، حتى وصل نهايته، ثم سمعت صوت ارتطامه بالأرض في الزقاق، فتحت الباب، فرأته راكضاً، وخلال ثوان غاب عن الأنظار.
حينما وصلت في حكايتي إلى هذه النقطة استوقفني أبو محمد وقال لي:
- بتعرف يا أبو المراديس؟ أنا حطيت حالي مكان أبو خلو، وبصراحة عصبت كتير.. هلق لما بيرجع ع البيت وبيعرف إنه ابنه طلع يسهر وهو يا دوب عمره سبع سنين، أشو ممكن يتصرف؟
أبو المراديس:
- المشكلة مو بطلعته من البيت والسهر بره البيت. المشكلة الحقيقية في الكذب. لأن لما رجع أبو خلو وخليل وأحمد من بيت الأستاذ علاء، كانوا التلاتة مجهزين حالهم منشان يعاقبوه ويربوه، ولما عرف أبو خلو إنه راح لعند رفيقه نادر ليحل الوظيفة، استنفر وحلف يمين إنه راح يدخل بيت أبو نادر ويشحط فريد بالقوة، لكن ابنه أحمد طلب منه يصبر شوي، ويهدا، ولما هدي قال له:
- ياب جنينا مرة واحدة، ورحنا ع بيت الأستاذ علاء، وعرفنا أن فريد كذاب، ضروري نجن مرة تانية ونروح ع بيت أبو نادر لحتى نعرف إنه كذاب؟
قال خليل: خلينا نفوت ننام، وبالنسبة لفريد لا تخاف عليه، متلما نط وطلع ع الحيط وراح، بينط وبيرجع ع الدار.
فكر أبو فريد بكلام خليل وأحمد. اقتنع. ودخلوا الكل ع النوم.
(للقصة تتمة)