سيرة العقل والجنون (6)
في مطلع سهرة الإمتاع والمؤانسة، طرح الأستاذ كمال فكرة بالغة الأهمية، تتعلق بما سمّاه (الجنون الملتبس المتسلسل).. وضرب لنا مثلاً بالأكذوبة التي أطلقها الفتى المجنون فريد حينما قال لمدير المدرسة الأستاذ علاء إن والده سينصرف من الفلاحة ظهراً، ويذهب إلى بلدة سلقين، لكي يوصي له على حذاء يناسب قدميه الكبيرتين!
طلب أبو محمد من كمال أن يتوقف: دقيقة أستاذ كمال. أنا ما فهمت عليك، شلون يعني جنون متسلسل؟
كمال: أنا أول شي قلت إن جنون الولد "فريد" ملتبس. راح أوضح لك الفكرة. مدير المدرسة الأستاذ علاء كان حاسس إن القصة اللي رواها فريد كلها كذب، لكن الانطباعات المرتسمة على وجه فريد كانت بتوحي إنه صادق، ومن هون أجا الالتباس.. وقلت كمان إنه جنونه متسلسل، يعني إذا انكشفت أول كذبة، ممكن يفبرك كذبة تانية بديلة، وبيبقى كلما انكشفت كذبة بيجيب مكانها وحدة جديدة لحتى يخلي الطرف الآخر ينسطل، أو يجن.. وأنا هلق بدي أقول، بعد إذنكم، وقبلما يكمل أبو المراديس الحكاية، إن الجنون بحد ذاته أمر محزن، لكن الناس أواقيت بيحولوه لحالة كوميدية، وبيصير مضحك.
أم زاهر: هاي فكرة كويسة بالفعل. بس شلون؟
كمال: أنا لاحظت، من خلال حديث أبو المراديس، إنه شخصية مدير المدرسة علاء كتير طريفة، بدليل إنه ترك شغلُه في المدرسة، ومشي مع فريد لحتى يتأكد من صحة كلامه.. برأيي لو كان المدير واحد غير علاء، ممكن يطرد فريد من المدرسة، وتنتهي القصة. بعدين، الأستاذ علاء لما أجا لعنده معلم الصف الأول الأستاذ عبد الله، وصار يحكي له عن فصول فريد، كان يركز بصره على أصابع القدم تبع فريد ويشوفها نابقة من الجاروخ الديري، ويوشك على الضحك. أنا بشوف حب الضحك ميزة ما بتنوجد غير عند الناس الظرفاء.
أبو الجود: على سيرة حب الضحك. كان يجي لعند عمي أبو محيو ع القرية موظف بمؤسسة الحبوب، لما بيضحك بينفتح تمه، وبيرتفع منخاره لفوق، وبينطمروا عينيه، وبيختفي صوتُه، وبيخشّب. أنا كنت أظن إنه مات، وبيضل مخشب شي تلاتين ثانية أو أكتر، حتى يبلش صوته يطلع، ونعرف إنه عم يضحك، ونقول لحالنا: الحمد لله الرجل بعده عايش!
أيقنت أم خلو أن نسبة الجنون عند فريد مرتفعة الآن، فراحت تتحدث إليه بتودد: حبيبي فريد، تقبرني انشالله، وتحط الآس على قبري، قلي، إشبه الأستاذ علاء؟ ليش تارك مدرسته وجاي لهون؟
أبو المراديس: أنا موافق تماماً على ملاحظات الأستاذ كمال، وبالنسبة للشخص اللي حكى عنه أبو الجود أنا بعرفه شخصياً، والحقيقة إنه كان يضحك لأتفه الأسباب، وبالفعل اللي بيشوفه عم يضحك بيعتقد إنه مات! لكن أنا عندي إضافة بتتعلق بالكذب. الكذب، يا شباب ويا صبايا، هو شأن خاص بالعقلاء، ونادراً إنك تلاقي بين المجانين واحد كداب متل "فريد"، لأن المجنون بيقول الحقيقة وبيمشي، من أشو بده يخاف؟! بهالمعنى بيكون فريد مجنون من نوع خاص جداً.
أبو ماهر: مع احترامي للجميع، حديثكم كويس لكن ما فيه تركيز. إذا بتسمحوا رجعونا لحكاية الجاروخ اللي كان فريد لابسه في المدرسة.
أبو المراديس: الأستاذ علاء تابع طريقه لبيت العم أبو خلو، دق الباب، طلعت أم خلو، ورحبت فيه، وهوي سألها عن أبو خلو، قالت له: والله يا خاي هوي بالفلاحة، ما بيحل للمغرب.. فسألها عن موضوع سفره لسلقين منشان يشتري بوط رياضة لفريد، قالت له: أنا ما عندي خبر.. أبو خلو ما ذكر قدامي إنه راح يسافر لسلقين..
وانتهت المقابلة بإنه طلب منها تخبر أبو خلو يمر عليه بكرة في المدرسة إذا ممكن.
بعد مغادرة الأستاذ علاء وقعت السيدة أم خلو في حيص بيص، وبدأت تفكر بأن مجيء الأستاذ علاء إلى هنا في منتصف النهار بصحبة فريد أمر غريب جداً، والأغرب من ذلك ما سمعته عن ذهاب زوجها "أبو خلو" إلى بلدة سلقين، فهذه البلدة تبعد عن قريتهم مسافة بعيدة، وزوجها أبو خلو لا يعرف أحداً هناك، وهو أصلاً لا يترك عمله في الفلاحة مهما كلف الأمر، ثم لماذا لم يدخل فريد إلى البيت؟ ألم ينته دوامه في المدرسة؟ لا بد أنه بقي واقفاً في الزقاق.
عقدت الشاشة البيضاء حول رأسها وخرجت إلى الزقاق فوجدت فريد واقفاً بين مجموعة من الأولاد، يتحدث وينط وينزل أمامهم وهم يضحكون، وقفت ونادت عليه أن يأتي فقال لها: فوتي ع الدار أحسن ما يشوفوكي الزلام.
فعادت إلى الدار وهي تبربر قائلة لفريد عن بعد: يلعن جنونك يا فريد.. أيش بيصير إذا شافوني الزلام؟
وبينما هي ترفع الشاشة عن رأسها، هبط قلبها من شدة الخوف، إذ سمعت صوت جسم ثقيل ينخبط بالأرض. التفتت فوجدت "فريد" يُسقط نفسه من فوق سور الدار، فقالت: يا لطيف يا ساتر. ولك إبني ليش ما دخلت من الباب؟
فريد: يام، أنا بشوف النزلة من ع الحيط أحسن. لأن إذا دقيت الباب بدك تتعبي لبينما تفتحي، وإنتي مَرَا كبيرة على حافة قبرك.
أيقنت أم خلو أن نسبة الجنون عند فريد مرتفعة الآن، فراحت تتحدث إليه بتودد: حبيبي فريد، تقبرني انشالله، وتحط الآس على قبري، قلي، إشبه الأستاذ علاء؟ ليش تارك مدرسته وجاي لهون؟ ومين قال لعلاء إنه أبوك بده يروح ع سلقين؟
فريد: يام، أنا كنت قاعد في الصف، والأستاذ عبد الله كان عم يشرح لنا الدرس، دخل الآذن وقال للأستاذ إن المدير بده فريد إبن أبو خلو يروح لعنده ع الإدارة. قلت لحالي (الله يعطينا خير الأستاذ علاء، أيش بده مني؟). رحت. وقفت قدامه باستعداد. بتعرفي أيش قال لي؟
أم خلو (باهتمام): أشو قال لك؟
فريد: فهمت منه إن البارحة اشترى تنكة زيت من سوق الخانات، ولما جابها ع البيت وفضاها في الخابية لقاها مغشوشة، معبايين التنكة مَي وحاطين فوق شوية زيت. صار يصرخ ويقول للبياع (إنت غشاش). البياع قال له: هاد الزيت أنا اشتريته من أبو خلو، وأبو خلو اشتراه من سلقين. وقال له كمان إنه أبو خلو ترك الفلاحة وراح ع سلقين لحتى يتخانق هو والبياع الأصلي. أنا قلت له: يا أستاذ أنا على طول مشغول بدروسي وما بعرف إذا أبوي راح ع سلقين ولا ما راح. تعال معي لنسأل أمي، لأن أبوي بيحكي لأمي كل شي. صحيح يام، عن جد أبوي راح ع سلقين؟
(للقصة تتمة).