سيرة العقل والجنون (33)
أخبرنا أبو الجود أن قصة الشاب (المجنون العاقل "أبو الدك") لم تنته، وما زال فيها فصول يمكن أن يرويها لنا إذا طال عمره ولم يقشّه وباء كورونا.. ولأجل توضيح ما جرى قال إن أبو الدك لم يقبل العرض الذي قدمته له ابنة مدير الناحية عفراء بأن يكونا صديقين عاديين مثل أي شاب وشاب، أو بنت وبنت، وكان سبب رفضه معقولاً، وهو أن كل منهما شاب، وعاطفته متأججة، ويمكن أن يرتكبا، خلال الصداقة، خطأ يودي بهما. وقال أبو الدك مبرراً ذلك:
- أنا من دون ما تكون عفراء صديقتي جانن بحبها، فكيف بدي أشوفها وأقعد معها ونبقى أصدقاء؟
وأما فكرة انتقال بكار ومجموعة (المجانين العاقلين) الآخرين إلى معرتمصرين، فقد جرى تنفيذها خلال أقل من شهر.. بكار اشترى داراً واسعة في الحارة الغربية، بالقرب من دار المرحوم عبدو حاج خطيب، وسيارة بيكآب نمرتها زراعية، واشترى مفروشات جديدة، لأنه كان قد وعد والدته بإبقاء دار القرية على حالها، حتى إذا فكرت بزيارة القرية تنزل في دارها، وتستخدم أدواتها نفسها.
قال أبو جهاد: أكبر غلط عمله بكار أنه ترك أبو الجود في القرية وما أخده مع المجانين. مفكره عاقل.
أبو الجود: مع أن أبو جهاد عم يمزح، بس أنا بصراحة عرضت الفكرة ع بكار بكل جدية. قلت له خيو اعتبرني مجنون وخدني معك ع معرتمصرين، لكن ما رضي. تبين إنه حضرته شايل خاطر لأم الجود. مو بس هيك بيقول عنها (الست أم الجود).
أم الجود: أكيد، لأن بكار رجل محترم، بيعرف قيمة الناس، مو متلك.
أبو محمد: خيو أبو الجود، يعني هيك بتكون القصة تبعك انتهت؟
أبو الجود: الله يسامحك يا عمي أبو محمد، إذا العيلة فيها مجنون واحد قصصها ما بتنتهي، بقى شلون بدها تخلص قصة بكار المليانة مجانين؟ بتعرف أشو عمل الحاج صطيف البرغوتي؟
حنان: ومين هاد الحاج صطيف بلا زغرا؟
أبو الجود: هادا واحد من قريتنا بينادوا له أبو نبهان، هوي والد المجنون "طَقّ مصدّ". لما عرف الحاج صطيف إن بكار انتقل ع معرتمصرين وأخد الشباب المجانين معه، طق عقله هوي التاني، صار يمشي في أزقة القرية ويحكي حاله.. ولما وصل عالساحة اللي قدام الجامع بلشوا الناس يسألوه:
- أشو القصة أبو نبهان؟
صار يقول: إبني نبعان طق عقله وطفش من البيت، قلنا لحالنا هادا قدر من عند الله سبحانه وتعالى، صار ينام في البراري، ما حكينا شي، سمعنا إنه صار هوي ورفقاته في بيت بكار ابن كرم الحجي، قلنا منيح، هادا بكار رجل عاقل ووالدته مرا آدمية، لكن ينتقل بكار على معرتمصرين وياخد ابني معه، هاي ما بينسكت عليها. كان ع القليلة يجي لعندي ويخبرني. بس على مين هالأفلام هاي؟ علي أنا؟ علي الطلاق إذا ما خليت بكار الحجي يندم ما بكون أنا الحج صطيف وأبو نبهان.
بعض رجال القرية حاولوا يهدّوه، ما رد عليهم، راح مباشرة عَ الكروزة (الطريق العام)، ركب بسيارة رايحة على معرتمصرين، ولما وصل صار يسأل ع دار بكار، ولما لقاها، دق الباب متل المخابرات لما بيدقوا باب واحد بيشتغل بالسياسة. فتح له الباب أبو الدك. من غير سلام أو كلام دخل وهوي عم يصيح ويقول:
- وينك يا بكار؟ وينك يا اللي عامل حالك مصلح؟ ما بيكفي خليت ولادنا يكرهونا ويبعدوا عنا؟ كمان بتجيبهم معك عَ معرتمصرين؟ أشو الشغلة فوضى؟ ولاد الناس مدشرين؟
أبو الجود: ومن حسن الحظ إنه بكار ما كان موجود في البيت. لو كان موجود كان ممكن يكسر له إيده متلما كسر إيد أبوه لأبو الدك. المهم طلعت أم بكار، ورحبت بالحاج صطيف، وطلبت منه يستريح، ووعدته إنه ما يغادر المكان إلا هوي وراضي. قعد الحاج صطيف وصار ينفخ متل الحية البالعة. قالت له أم بكار:
- ما كان في داعي للصياح والحكي الطالع النازل يا حاج صطيف. نحن هلق عايشين في بلد غريبة، ما بدنا أهل معرتمصرين ينتقدونا.
الحاج صطيف: بس هيك ما بيصير يا أم بكار. نبهان إبني ولا مو إبني؟
أم بكار: شلون لكان؟ كل أهل قريتنا بيعرفوا إنه إبنك، لكن نحن كمان، أنا وإبني بكار معتبرينه إبننا، ونحن ما غلطنا بحقه، عايش بيناتنا آكل شارب نايم، وتيابه أحلى تياب، وما حدا بيحكي معه كلمة وحدة برات الطريق. وعلى كل حال نحن مو متمسكين فيه، استنى شوي إذا بتريد.
ودخلت إلى حيث يقيم المجانين، نادته وجاءت برفقته إلى حيث يجلس أبوه.
وقف نبهان (طق مصد) قدامهم وقال: خير؟ أشو في؟
أم بكار: أبوك يا إبني حابب ياخدك معه ع القرية. يا الله، فوت ضب تيابك وروح معه.
طق مصد: على راسي. أبوي بيمون على كل شي، بس نحن لازم نعطي خبر لأبو كرم. مو هيك الأصول؟
أبو نبهان: صرت تفهم بالأصول كمان؟ روح جيب غراضك وانقلع معي ع القرية.
أم بكار: متلما عم يقلك أبوك اعمل. وبالنسبة لبكار أنا بعطيه خبر، أنت ما عليك.
قال طق مصد لوالده: أنا رايح معك. بس دير بالك تقلعني من البيت متلما عملت المرة الماضية.
الحاج صطيف: أي روح جيب غراضك وإمشي معي بلا علاك.
خلال يومين من مغادرة الحاج صطيف وولده نبهان (طق مصد) دار بكار في الحارة الغربية بمعرتمصرين، حل الندم بكل أطراف الحكاية. بكار ندم لأنه كان غائباً عن البيت، لو كان موجوداً لأقنع الحاج صطيف بأن مصلحة ابنه أن يبقى هنا، لأنه بعد أيام سيكون عاملاً في المحل الذي سيفتتحه في سوق الهال، ويحصل على دخل جيد من مصدر شريف، وبإشراف بكار نفسه. وأم بكار لامت نفسها لأنها تصرفت في غياب ابنها، فما الذي كان يمنعها من المماطلة والتسويف إلى حين عودة بكار إلى المنزل؟
أم زاهر: أنا ما فهمت، ليش تندموا؟ طالما أبوه أخده معناها راح يكون في مكان أمين.
أبو الجود: أنتي قلبك طيب يا ست أم زاهر. لو تعرفي أيش صار في القرية بعد رجعة الحاج صطيف وإبنه "طق مصد" ما كنتي بتسألي هالسؤال.
(للقصة تتمة)