سيرة العقل والجنون (26)
تابع أبو الجود رواية حكاياته عن الشاب المليونير "بكار"، ومدير الناحية الرائد فاتح "أبو عمر"، والمجنون "أبو الدك"، وبقية المجانين الذين يرعاهم بكار، ويُسكنهم في داره. وقال إن بكار، بعد مرور بضعة أيام على الوليمة التي أقامها في داره على شرف مدير الناحية، راح إلى معرتمصرين، ومر بطريقه على مكتب مدير الناحية أبو عمر، وشرب عنده قهوة.
قدم الرائد فاتح، أبو عمر، لبكار نصيحة ذكية جداً، وهي أن يعتمد في القادم من الأيام على ريع أراضيه، لأنه إذا لجأ لبيع الأراضي والصرف من ثمنها، فربما تكفيه الثروة التي ورثها عن أبيه بضع سنوات، وتنفد، ويقعد على الحصيرة، ولكنه إذا استثمر الأراضي فإن محصولها يكفيه لما يلزم له من نفقات، ويزيد.. وعندما أعلمه بكار بأنه لا يحب الزراعة، قال أبو عمر إن التنويع في مثل هذه الحالة ضروري جداً.
بكار: شلون يعني تنويع؟
الرائد فاتح: إذا بعت أرض، وَظِّفْ تمنها في مشروع تجاري، أو صناعي، بيدر عليك دخل. على سبيل المثال يمكن تشتري أرض في معرتمصرين، بمنطقة أسعارها رخيصة، وبتعمل عليها معمل خَفَّان، يا إما بتشتري دكان في سوق الهال، وبتستثمره في بيع الكومسيون، وعلى فكرة الشباب المصنفين في خانة المجانين ممكن يشتغلوا معك.. هدول من أكتر الناس إخلاص إلك، بيحبوك حب حقيقي خالي من الغش، لأنك احتضنتهم، ورعيتهم، وطعميتهم أطيب أكل، وعم تنيّمهم بمكان دافي. باختصار حفظت لهم كرامتهم.. والحادثة التي وقعت يوم كنا معزومين عندك أكبر دليل على هالشي.
بكار: أي حادثة بتقصد سيادة الرائد؟
ضحك بكار وقال لأبو خالد: إنت فهمتني غلط يا أبو خالد. بخصوص زواج خالد أنا ما بدي منك أي مساهمة مالية، بيكفي الدعم المعنوي
الرائد فاتح: أول شي بتمنى تناديني أبو عمر، لأني أنا صديقك، وعم نحكي مع بعضنا خارج نطاق العمل، وتاني شي أنا بقصد موقف "أبو الدك" من أبوه.. والدتك حكت لأم عمر، وأم عمر حكت لي أنه "أبو الدك" راح على دار أبوه، وضغط عليه واسترد المية ليرة اللي أخدها منك، ورَجَّع لك ياها. هادا الولد عم يتصرف بشكل عاقل، وشجاع، ومحترم. أنا بشوف إذا فتحت شي مشروع تجاري إنك تعتمد عليه.
بكار: عجبتني الفكرة تبعك أبو عمر. بس هلق في براسي شغلة تانية، بعدما إنتهي منها راح أغيّر كل نمط حياتي.
الرائد فاتح: طيب، اتفقنا.
أبو الجود: في هاد الوقت دخلت السيدة أم عمر، سلمت على بكار، وعاتبته لأنه جاي لحاله، ومو جايب معه الست أم بكار. وبعد شوي دخلت البنت الصبية عفراء، وسلمت ع بكار، وقدمت له كاس عصير بارد.. كانت لابسة بلوزة سودا معلقة بخيطين، ومن كتر ما كانت جميلة وفتية وجذابة، بكار احمر وجهه، وشرب العصير دفعة وحدة، واستأذن وطلع.
أم زاهر: أشو هوي الشي اللي كان في راس بكار؟ كان مفكر يخطب ويتجوز مثلاً؟
أبو الجود: يا ريت. لو كان مفكر يخطب ويتجوز كان هالشي طبيعي، لأن أنا من جيله، كنت بوقتها متزوج وعندي ولدين.
أبو ماهر: لكان شو قصته؟
أبو الجود: لما رجع ع القرية، بعد زيارته لمدير الناحية، راح مباشرة لعند أبو خالد (والد أبو الدك). لما طلع أبو خالد وشافه ارتفعت الحالة العصبية عنده، وقال له: نعم؟ خير؟ أشو في لسه؟ ما بيكفي الشي اللي عملته فيني؟
قبلما يكمل أبو خالد السحبة تبعه، شال بكار مية ليرة وناوله إياها وقال له: أول شي أنا جاية إعتذر منك. تاني شي أنا مو راضي على تصرف إبنك خالد، وما كان عندي خبر إنه راح يجي لعندك ويغلط معك. ع كل حال هاي المية ليرة من حقك.
أبو خالد غلبته الفرحة، دحش المية ليرة في جيبه، وفتح الباب وصار يرحب ببكار، وعزمه ع الفوتة لجوة، وصاح على أم خالد والبنات منشان يعملوا شاي. وبكار ما اكتفى بهاي المفاجأة، شال خمسين ليرة، وقال لأبو خالد إنه كان لازم يجي يزوره بعدما انكسرت إيده، ويقوم بالواجب، بس الظروف اللي صارت خلته يقصر في الواجب. أبو خالد شفط الخمسين ليرة، ودحشها في جيبه، وصار يقول لبكار: ألله يرحم أبوك يا أبو كرم، أنت رجل طيب، مربى، وإبن حلال صرف، خيو، من الأخير، إنت رجل محترم. إئمرني خاي، أشو بيلزمك خدمة، ترى أنا جاهز.
بكار: بدنا نخطب لخالد ونزوجه!
هون دب الرعب في نفس أبو خالد، وأحس بالعطب، ووقع في حيرة، فكر يرجع الـ 150 ليرة لبكار ويقول له (خود مصرياتك وحل عني، أنا من وين بدي أجيب عشرة آلاف ليرة وأزوّج هالمسطول أبو الدك؟) لكن أبو خالد كان يتعامل مع المصاري بطريقة "رني رناتك".
حنان: وأشو بقى هاي الطريقة؟
أبو الجود: في هديكه الأيام كانوا الناس، لما بيحكوا على واحد بخيل وجشع متل أبو خالد، بيقولوا إنه بيمسك الفرنكات والرباع والنصاص والليرات المعدنية، وبيسقطها في المطمورة، وهيي بترنّ، وهوي بينبسط وبيقول لها:
رني رناتك
وانزلي عند إخواتك
الله لا يحيجني لطلعاتك
وهدول المية وخمسين ليرة مبلغ كبير، يمكن أبو خالد بيقبل إنه يطلع قلبه من صدره ولا بيقبل يطلعوا من جيبه. منشان هيك قال لبكار: والله يا أبو كرم، الحق معك، خالد صار شب، ولازم نزوجه، بس هلق بدك تعذرني، ظروفي ضيقة، ولسه موسم الأرض ما طلع.
ضحك بكار وقال لأبو خالد: إنت فهمتني غلط يا أبو خالد. بخصوص زواج خالد أنا ما بدي منك أي مساهمة مالية، بيكفي الدعم المعنوي.
أبو خالد: ما فهمت.
بكار: أنا راح أتكفل بمصاريف الخطوبة والزواج، وراح أأمن لخالد بيت يسكن فيه، وبالنسبة لمصروفه هوي ومرته هوي بيتكفل فيه، لأن خالد بده يشتغل، ويصير عنده دخل.
في هادا الوقت دخلت أم خالد ومعها أبريق الشاي والكاسات.. وكان أبو خالد عم يقول: أصيل. أنت يا أبو كرم إنسان أصيل، وطيب، وما في متلك..
ولما شاف أم خالد داخلة صاح فيها: وليك أم خالد، إشبك؟ ليش مسكرة تمك؟ عم يوجعوك أسنانك شي؟
أم خالد: لأ.
أبو خالد: أي لكان ليش ما عم تزلغطي؟ مانك سمعانة هالطيب المحترم أشو عم يقول؟!
(للقصة بقية)