سيرة العقل والجنون (2)
- كل قاعدة لها شواذ.
هذا ما قاله الأستاذ كمال في بداية القسم الثاني من سهرة الإمتاع والمؤانسة.. وأوضح فكرته قائلاً إن الناس يولدون أسوياء، بشكل عام، ويوجد بينهم نسبة قليلة يصابون بعاهات فطرية خَلْقية، فيكون بينهم المجنون، والمعتوه، والمخبول، و..
وسكت. فتساءلت أم الجود: وأشو كمان؟
كمال: يا ستي، المصطلحات اللي بتدلّ ع الأمراض العقلية نوعين، علمية وشعبية. المصطلحات الشعبية بتمتاز بالطرافة. الناس بيقولوا عن المجنون، مثلاً، مسطول، ومهبول، ووَاشِشْ، ومخيول، ومطيور، ومأجّر الطابق الفوقاني، وعقلُه جوزتين في خُرْج، وما في بعلبة مخه ولا مسمار.. وبالمناسبة، حياتنا فيها قصص وحكايات طريفة بتتعلق بموقف الأهل والمجتمع من الأبناء اللي مأجرين الطابق الفوقاني..
أبو محمد: عم تقول قصص وحكايات؟ كتير كويس. يعني راح نسمع حكاية نبلّ فيها ريقنا..
أبو المراديس: أنت بتؤمر أبو محمد. عندي شخصية جديدة، وبعرف عنها حكايات كتيرة. كان في عندنا في البلد فلاح طيب وآدمي ومحترم، إسمه أبو خليل، وكانوا الناس ينادوا له "أبو خلّو".. خَلَّفْ أبو خلو تلات صبيان وست بنات، ومن بين الصبيان كان في واحد مجنون، اسمه "فريد". سبب التسمية إنّ أبو خلو لما شاف الوليد أول مرة اندهش من جمال شكله، راس كبير، وأشقر، وعيونه لونها كاشف، وكان مبتسم.. فصلى على النبي وقال لمرته: بدي أسميه "فريد"، لأنه هالولد راح يكون فريد عصره.. لكن مع الأسف ما كان بيعرف إنه راح يطلع مجنون. ويا ريت مجنون (واشِش) وبس، إنما مجنون شرس ومؤذي، سَبَّب لأبوه وأمه وإخوته مشاكل إلها أول وما إلها آخر.
انفلت أبو خلو بالضحك رغماً عنه. ففي الحارة التي يسكنها منذ خمسين سنة، وحتى في البلدة كلها، نادراً ما يستعمل أحدٌ كلمة "بابا".. الكل يقولون أبويي، وإذا بده يخاطب أبوه بيقول: يو ياب
أبو الجود: أنا بعرف فريد، لما اشتغلت في شعبة الحزب بإدلب كنت مارق بحارته، وصارت بيني وبينه قصة ظريفة. خلي أبو مرداس هلق يكمل كلامه، وأنا لما بيجي وقت قصتي بحكيها.
أبو جهاد: ان شاء الله تحكي على وجع ضرسك يا أبو الجود. طالما بدك تأجل قصتك، ليش ما بقيت ساكت؟
أبو الجود (ضاحكاً): عم أحَرّك عضلات تمّي حتى ما تتيبس.. لأن الشباب لما بيستلموا الحديث ما بيتركوا دور لحدا.
أبو المراديس: أبو الجود معه حق، أنا راح أكمل كلامي لأن هلق نحن في طور التأسيس للشخصية، ما بدنا نعمل قفزات في الفراغ. يا سيدي أبو خلو إنسان صابر ومؤمن بقضاء الله وقدره، منشان هيك، لما ظهرت بوادر الجنون على فريد عقد مع أم خلو اجتماع مغلق، وقال لها: يا أم خلو، هادا فريد ابننا، مصيبتنا، لازم يبقى في الدار، ما تخليه يطلع أبداً، لأنه إذا طلع وعمل مشاكل مع ولاد الجيران بيصيروا الناس بيحكوا علينا، وبيقولوا اللي عنده ولد مجنون لازم يضبّه.
أم خلو: معك حق. أنا راح أدير بالي عليه، بحط درباس الباب من جوه حتى ما يطلع ع الزقاق. لكن على قولة المتل "حساب السوق ما بيطابق الصندوق"، وما مضى على هالاتفاق يومين حتى صارت أم خلو على حافة الجنون.. السيد فريد عمل عقل والدته لعبة، كان يجي لعندها ويتمسح فيها متل القط، ويقول لها: يام، أنا جوعان.
وباعتبارها أم حنونة، كانت ترد عليه بعبارة: ان شاء الله الجوع للقطة. ريتك يا حبيب قلبي فريد تقبرني وتلحدني وتشكل الآس على قبري، استناني هون لحتى أفوت ع المطبخ وأجهز لك شي تاكله..
وبتدخل ع المطبخ وتجهز الأكل للمحروس فريد.. وبعد شوي بتطلع وبتقول وينك يا فريد؟ وبوقتها ما يبقى نوع من الحيوانات إلا وبتسمع صوته.. شي جاجة عم تقاقي، وشي قط عم ينوّي، وشي كلب عم يعوي، وتركض في أرض الديار وتصيح: فريد. وينك لك إبني؟ مو هلق كنت هون؟
بيجيها الجواب مرة من ع السقيفة، ومرة من ع السطح، وولا مرة بيحكي حكي، وبالأخير بتسمع شي انخبط، وبتصيح (يا لطيف)، وبيختفي صوت الحيوانات، وبتبدا رحلة البحث عن فريد، حتى بالأخير بتلاقيه واقع ع الأرض بشي مكان من أرض الديار أو في وحدة من الغرف. ووقوعه ع الأرض ما بيتمر أكتر من ثانيتين، وبعدها بيوقف وبيركض دون أي ألم..
بعدما مضي أسبوعين على الاتفاق، لما رجع أبو خلو وخليل وأحمد من الفلاحة شافوا الوضع في الدار متكهرب، والغرفة اللي بيقعدوا وبيناموا البنات مقفولة، وأم خلو شعرها منكوش وواقفة عند باب المطبخ وشايلة بيدها عصاية المكنسة وعم تلهت. سألها أبو خلو: خير يا أم خلو؟ خير؟ أيش في؟
قالت له: اليوم فريد مجحش. جاب عصاية وصار يضرب إخواته البنات، وأنا خليتهن يدخلوا عَ غرفتهن ويقفلوا الباب من جوة، وعلى قد ما شديته وشدني انقطع حيلي. وليكه هلق متخبي في المطبخ.
الإبن الكبير خليل، أخد إذن من أبوه ودخل ع المطبخ، وبعد شوي سمعوا صوت عراك، حتى تغلب خليل ع المجنون فريد، وطلع هوي وإياه برة المطبخ.
تنفس أبو خلو بقهر وسأل فريد: ولك إبني ليش هيك عم تعمل؟ ليش عم تضرب إخواتك البنات؟
قال فريد: هاي أمي ما عم تخليني أروح ع المدرسة. كل رفقاتي راحوا. أنا بدي أتعلم.
دهش أبو خلو من هذا الكلام. وقال له: عن جد إنته حابب تتعلم؟
فريد: نعم بابا.
انفلت أبو خلو بالضحك رغماً عنه. ففي الحارة التي يسكنها منذ خمسين سنة، وحتى في البلدة كلها، نادراً ما يستعمل أحدٌ كلمة "بابا".. الكل يقولون أبويي، وإذا بده يخاطب أبوه بيقول: يو ياب.
قالت أم خلو: ابعته ع المدرسة. ع القليلة أنا برتاح منه كم ساعة.
نفخ أبو خلو وقال: بترتاحي منه إنتي وبتبتلي فيه المدرسة! على كل حال خلينا نفكر. ما بدنا نعمل شغلة نتبهدل من وراها.
(للقصة بقية)