سيرة العقل والجنون (1)
في سهرة الإمتاع والمؤانسة، وبعد الانتهاء من سيرة مرشح الشعب المجنون عبد الحميد الفارط، اقترح علينا الأستاذ كمال فكرة طيبة، وهي أن ننطلق من جنون الفارط إلى حديث عن العقل والجنون بشكل عام، ولنستذكر جملاً عديدة يرددها أبناءُ منطقتنا حينما يغضبون، فيقولون: قسماً بالله شي بيجنن.. الجنون فنون والهبال أشكال، وإذا جن ربعك عقلك ما يفيدك، ومجنون يحكي وعاقل يصغي..
وضرب لنا مثلاً برجل من مناطقنا، عاقل، ومسكين، ودرويش، قريب بالشبه من المجاذيب، ومع ذلك يطلق عليه الناس صفة (مؤدب).. وقال إن هذا الاشتقاق خاطئ، لأن صفة "مؤدب" نفسها تُطلق على الشخص الفهيم، الموهوب، المثقف، المبدع، ذي الشخصية القوية المشاكسة.. وشتان ما بين المعنيين!
أبو ماهر: والله هالحكي صحيح. كان عندنا شاب في مدينة حماة اسمه عبدو، بيتواجد في السوق على طول، وبيقوم بحركات شاذة، وبيصدر أصوات غريبة، وأوقات بيكون هادي، بيقعد معنا وبيناقشنا ببعض الأمور بذكاء، وكنا كلياتنا نحتار بأمره، واحد بيقول عبدو مجنون، وواحد تاني بيقول عقله بيوزن جبل!
أبو زاهر: يبدو أنه تقييم الجنون والعقل في بلادنا مالُه علاقة بالعلم. بالنسبة لعبدو اللي حكى عنه أبو ماهر، مثلاً، الناس في السوق هني اللي بيقيموه، مع إنه المفروض هالشي يصدر عن لجنة طبية متخصصة.
كمال: كلام أبو زاهر بيخلينا نتذكر متلين تانيين بيدلوا على التطنيش واللامبالاة، واحد منهن بيقول: كله عن العرب صابون، والتاني بيقول: حط في الخرج.
أبو المراديس: بالمناسبة، كان بسورية في الأربعينات صحيفة سورية ساخرة اسمها "حط في الخرج" صاحبها هو الزعيم الوطني فخري البارودي (1887- 1966)، وإذا إنت دققت بالعنوان بتكتشف إنه "شيخ الشباب فخري البارودي" عم يسخر من الناس اللي بيتهربوا من حل مشاكلهم، وبيحطوها في الخرج، يعني بينيموها.. ومع هيك بتلاقي العرب بيتباهوا بالعقل، وبنفس الوقت بيتباهوا بالجهل.
أبو محمد: وقّف عندك، لا تكمل. ترى أنا ما عم أفهم.. في حدا بالدنيا بيتباهى بالجهل؟
أبو المراديس: نعم سيدي. العرب هني اللي بيتباهوا بالجهل! وهالشي مو جديد عليهم، من شي ألف سنة، في العصر العباسي، كان في تلات شعراء فطاحل هني جرير والفرزدق والأخطل. والحقيقة إن هدول الشعراء خلقوا، بوقتها، حالة من الاهتمام بالشعر عند عامة الناس، بمعنى إن الناس صاروا ينتظروا أيش بده يقول كل واحد منهم لما بيهجي التنين التانيين، ويسمعوه، ويحفظوه ويرددوه في مجالسهم، وبقيت حالة الاهتمام فيهم مستمرة حتى الآن. وبالنسبة لموضوع العقل والجنون، الفرزدق كان عم يتحدى جرير فقال له:
أحلامُنا تزن الجبال رزانةً
وتخالنا جناً إذا ما نجهلُ
لما قال (أحلامنا) بيقصد عقولنا، بمعنى إن نحن عاقلين وجاهلين ومجانين بنفس الوقت! وجرير مانه سهل، ولا قصير حربة.. ولعلمك جرير كان يهجي شاعرين ببيت واحد بيقول فيه:
لما وضعتُ على الفرزدق ميسمي
وضغا البَعِيْثُ جدعتُ أنفَ الأخطلِ
ولما بده يرد على الفرزدق بموضوع الجهل بيقول:
أحلامُنا تزن الجبالَ رزانة
ويفوق جاهلنا فِعَالَ الجُهَّلِ
ولا تنسى، يا عمي أبو محمد، الشاعر المنفاخ الأكبر عمرو ابن كلثوم اللي كان يدعي بأن الرضيع في قبيلته لما بينفطم بتركع أمامُه الجبابرة.. وهادا بيوصِّل التباهي بالجهل والجنون للسقف، لما بيقول:
ألا لا يجهلَنْ أحدٌ علينا
فنجهلُ فوق جهل الجاهلينا
قالت أم زاهر: بصراحة، أنا في قمة الاستغراب، هاي أول مرة في حياتي بسمع إنه في عندنا شعراء بيتباهوا بالجهل بهالصراحة وهالوضوح.
كمال: نحن هون عم نحكي عن الشعراء اللي بيدافع كل واحد منهم عن قبيلته، وبيفتخر، وبيهجي الآخرين، وغالباً الشاعر في هالوضعية بيكون عصبي وأحمق. لكن إذا بتجي لعند (حكماء العرب) أشو بتلاقي؟
أبو محمد: أكيد بتلاقي العقل والحكمة.
كمال: لازم يكونوا عقلاء، ودائماً تصدر عنهم الحكمة. لكن أشو رأيك إذا بقلك إنهم بيحبوا السفاهة؟!
أبو محمد: حاجتك بقى. عم تبالغ.
كمال: أبداً ما عم بالغ. هاي هي الحقيقة. الأحنف بن قيس بيقول: ما قَلَّ سفهاءُ قومٍ قَطُّ إلا ذُلُّوا. وأكثم بن صيفي بيقول: لا حلم لمن لا سفيه له. وأنا هلق، إذا بدك، بضرب لك مثال بيوضح الشي اللي بيقصدوه هدول الحكيمين.
أبو محمد: يا ريت.
أبو المراديس: نحن هلق عايشين في إسطنبول، وممكن نعتبر حالنا ضيوف عند الدولة التركية. وفي هلق موجة كورونا جديدة. لنفرض أنه وزارة الداخلية التركية منعت التجول لمدة عشرة أيام. العقل بيقتضي إنو ننفذ الأوامر متل ما بيعملوا الأتراك. لكن، لنفرض في بيناتنا تلات أربع سفهاء ضربوا عرض الحائط بالتعليمات، وصاروا يطلعوا ويتجولوا في الشوارع بدون سبب، وبدون ما يتقيدوا بالتباعد وبلبس الكمامة. بحسب منطق الأحنف لازم نقول لولا السفهاء تبعنا كنا انذلينا، لكن الحقيقة إنه سلوك السفهاء هوي اللي بيسبب لنا الذل، لأن الشرطة راح تلقي القبض عليهم، وممكن الشعب في إسطنبول ينظر للسوريين بازدراء باعتبار أنهم بيخالفوا القانون. كمان في عندي مثال تاني: في سنة 2006 ارتكب "حزب الله" سفاهة، اعتدى، دون علم الدولة اللبنانية على إسرائيل، وعلى الفور جرى تهديم جنوب لبنان وتم تهجير مئات الألوف من الأهالي الآمنين. بيطلع واحد بيقول لك: لولا هدول السفهاء كانوا اللبنانيين انذلوا لإسرائيل.. أنا ما قصدي يعني نركع لإسرائيل، لكن بدي أقول إنه الدولة صاحبة العقل هي اللي بتقرر المواجهة أو الهدنة أو أي شيء، مو السفهاء.
قال أبو جهاد: طولوا بالكم يا جماعة. من دون يمين نشفتوا ريقنا. خلونا نشرب كاس شاي وبعدين منكمل حديثنا.
وافق الجميع على فكرة الاستراحة. وقال أبو محمد:
- مع أن اليوم سهرتنا ما فيها حكايات، بس والله حبيت هالنقاش.
أبو المراديس: بعدما نشرب الشاي راح نحكي على شخص عاقل ومجنون في آن واحد. مو حكاية واحدة، إنما حكايات كتيرة. أبشر.