سيد قطب في سجن تدمر

10 فبراير 2019
+ الخط -

كانت جلسات "الإمتاع والمؤانسة" تُعقد في مدينة "الريحانية" التركية على نحو شبه يومي. شعرنا، ونحن في منزل صديقنا "أبو خالد"، وكأننا نسهر في واحدة من قرى ناحية معرتمصرين.. نفس الفَرْش، ونفس الأدوات المنزلية المستعملة، حتى إن الأستاذ كمال سأل أبا خالد عن مصدر تأمين أباريق الشاي والكؤوس والركوات ذات النمط السوري التي يستخدمها، لأنه يعاني من العثور على مثل هذه الأدوات في هذه البلدة التركية الصغيرة، فقال أبو خالد: أنا لما طلعت من ضيعتنا وجيت لهون جبت معي كل عفش بيتي. وضحك وقال: مارست "التعفيش" على نفسي.

قال العم أبو محمد: بالمناسبة؛ ابني محمد فتح دكان هون في الريحانية قريب من دوار السيراميك، وكل البضاعة اللي فيه سوريّة، واللي لازمه أي شي يتفضل لعند محمد. المهم هلق احكوا لنا بشي سيرة مسلية. 

قال أبو نديم: السير تبعنا نحن السوريين ممكن تكون مسلية، ولكنها مؤلمة، وتخضّ البدن. خمسين سنة من حكم الديكتاتوري الفاشستي ما بقيت عنا قصة واحدة ظريفة ومفرحة.

قلت: كلام صديقنا أبو نديم صحيح مية بالمية. وأنا عندي أكتر من قصة وسالفة تثبت صحته.   

قال أبو الجود: أشو منتظر يا أبو مرداس؟ احك لنا.

قلت: متلما بتعرفوا أنا من بلدة معرتمصرين. بتعرفوا بأيش تمتاز معرتمصرين؟

ضحك أبو مراد وقال: تمتاز ببيدر الرام، وجُبّ المَصْنَعْ، وسْبِيْلْ حَنَنَان، ومزار الحاج أحمد، وتل أولاد الخليل، وبالبطيخ والجَبَس والخيار البلدي.

قلت له: أنت تمزح، مع أني عم أحكي جد. من ميزات معرتمصرين أنك قلما تلاقي فيها رجلاً ليس له لقب. ومن أغرب الألقاب المتداولة هو لقب "سيد قطب" الذي أُطْلِقَ على "أبو جلال".. وهو إنسان طيب وبسيط، ولا يوجد لديه أي نوع من الثقافة الدينية أو غير الدينية.

قال كمال: أفّ! وليش لقبوه سيد قطب؟

 

قلت: اعتباراً من سنة 1980، بدأت معرتمصرين تشهد حملة اعتقالات بحق الأشخاص الذين يُشتبه بوجود صلة تربطهم بتنظيم الإخوان المسلمين. نحن، أبناء البلدة الذين لا نعرف شيئاً عن هذا التنظيم كنا نسمع بأنهم قبضوا على أستاذ مدرسة من الملتزمين بالصلاة والعبادات، فنقول بيننا وبين أنفسنا إنه لا يستبعد أن تكون له علاقة بالتنظيم.. واحد شيخ جامع، وواحد مدرس تربية دينية، وواحد محامي وواحد مهندس، المهم أن هناك صفتين متلازمتين هما: الشهادة العلمية والتدين. ولكن حينما اعتقلوا "أبا جلال" صُعِقَ أهلُ البلدة كلهم.

قال أبو أحمد: كلام "أبو مرداس" صحيح، فأخونا "أبو جلال" لا يحمل أية شهادة، بل يقال إنه غادر المدرسة من الصف الثالث الابتدائي. وهو يكتفي بممارسة العبادات الروتينية المفروضة على المسلم، وأبرزها الصلاة والصيام، ويُمضي النهار كله في حراثة الأرض والعناية بالأشجار. وهو رجل طيب القلب حسن المعشر، لا يكره أحداً ولا يكرهه أحد. 

قال كمال: عندي سؤال. معقولة يكون شي واحد من جماعة الإخوان عرض عليه التنظيم، ثم ورد اسمه في أحد التحقيقات الأمنية مثلاً؟

قلت: معظم الذين اعتقلوهم ونقعوهم في تدمر، لمدة 15 سنة أو أكثر، غير منظمين في جماعة الإخوان، وكان سجنهم، على ما أعتقد، من باب الاحتياط، وتنفيساً لحقد حافظ الأسد وجماعته على ما جرى في الثمانينيات. ومن جهة أخرى مستحيل أن يَعْرض أحد منهم التنظيم على أبو جلال، ولا سيما أنه تنظيم بالغ السرية وأبو جلال غير مدرب على حمل أي سر.

قال الخال أبو جهاد: برأيك ليش أخدوه؟

قلت: لا يوجد سبب مقنع، أظنهم اعتقلوه نكاية بأسرته التي تمتاز بالتدين. المهم أنه مكث في سجن تدمر حوالي خمس عشرة سنة، لم يكن أحد من السجناء خلالها يعرفه باسمه الحقيقي، وإنما باسم: سيد قطب. 

وللحديث صلة

          

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...