سمر رمضاني في إسطنبول (1)
في مطلع سهرة الإمتاع والمؤانسة التي صادفت عشيةَ اليوم الأول من هذا الرمضان، قال الأستاذ كمال إن الناس في رمضان يحتاجون السمر والحكايات والطرائف مثلما يحتاجون اللحم والشحم والصنوبر والجوز واللوز والكبب والكعك المعروك والتمر هندي وقمر الدين. ويبدو أن هذا الأمر آت من أن المرح ينشط الجسم، والضحك يخفف من الحمولات الكبيرة التي توضع في المعدة بعد الإفطار.. مثلما حصل بحكاية الجاحظ التي أوردها في كتابه الرائع "البخلاء".
أبو محمد: أشو بتقول هالحكاية؟
كمال: الحكاية معروفة، بس أنا بدي أعمل عليها شوية تحوير. خلونا نقول إنه أحداث الحكاية جرت هون في إسطنبول، وهلق، في العصر الحديث، يعني ما جرت أحداثها في خراسان على أيام أستاذنا الجاحظ. منقول، مثلاً، إني نحن، مجموعة الإمتاع والمؤانسة، عايشين حياتنا هون بانسجام وسرور، وفجأة لفى علينا واحد بخيل حاشاكم، ومنطلق عليه اسم افتراضي (فلان). صار فلان وين ما رحنا يروح معنا. وتبين إلنا إنه كتير نضايفي.
أم زاهر: كلياتنا نضايفيين. مو بس هوي..
قال أبو المراديس: صديقنا "فلان" أكيد مُحْرَج منكم، لأن متلما بتعرفوا هوي عايش في بيت أخوه، ومو قادر يدعينا ع البيت
كمال: أي بس النضافة تبع "فلان" زايدة عن الحد، وبنفس الوقت مفيدة إلُه. القصد من ذكر صفة (النضايفي)، إنه لما منكون كلياتنا في مطعم، بيبقى فلان قاعد وعم ياكل ويشرب ويشارك في الحديث، وينكت، ويضحك، لوقت ما واحد منا يقول للجرسون: (Hesap alabilirmiyiz) يعني عطينا فاتورة الحساب، هون بتنقف على فلان سوسة النضافة، وبيروح ع المغاسل، وبيبقى هنيك طول الفترة اللي بتلزم لدفع الفاتورة والبخشيش للجراسين، وبيزيد عليها شي تلات دقايق احتياطية، وبيجي بعدين، وبيتابع حياته بيناتنا على طريقة شاعرنا العظيم نزار قباني لما بيقول: كأن شيئاً لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيهِ!
وبعد مدة بلشنا نحن نقلل من الذهاب للمطاعم، لأنها غالية، واللي بيدفع عم يتكبد مبلغ منيح، واستعضنا عنها بالسهر في البيوت، وصرنا نسهر كل مرة في بيت واحد منا، باستثناء أبو الجود، وبالمناسبة، أبو الجود بعكس صاحبنا البخيل "فلان"، أصلاً هوي مفلس على طول من شدة كرمه.. وبقينا عم ننتظر لحتى فلان يدعينا لبيته، وكان انتظارنا نوع من العبث، الرجل لا بيهش ولا بينش، مو بس ما دعانا، كمان ما كلف خاطره بالاعتذار منا، واستمر يجي على سهراتنا، وفي كل مرة بياكل وبيشرب وبيكيّف ع الأربع وعشرين قيراط.. هون خطرت لأبو المراديس، مثلاً، فكرة. كان فلان بالصدفة غايب عن السهرة، وطرح علينا أبو المراديس فكرة بتقول إني لازم نخطط لإجبار فلان على إنه يدعينا، ونروح لعنده، ومناكل ومنسهر على حسابه. نحن وافقنا بحماس، ولما التحق فلان بالسهرة، ووصلنا لآخرها..
قال أبو المراديس: صديقنا "فلان" أكيد مُحْرَج منكم، لأن متلما بتعرفوا هوي عايش في بيت أخوه، ومو قادر يدعينا ع البيت. بس أنا من شي أسبوع رحت عَ فلوريا، ودخلنا مطعم ع البحر، قعدة حلوة وأكل لذيذ وخدمة ممتازة. خيو، فلان عازمنا بكرة على هادا المطعم. في حدا عنده اعتراض؟
كمال: اللي اعترض هوي فلان نفسه، قال إنه هوي عازمنا، بس مو عَ المطعم، ولا على بيت أخوه. بيعزمنا على بيت أبو الجود، هوي بيجيب كل مستلزمات العزيمة، ونحن منسهر ومناكل ومننبسط.
الكل وافقوا، وأبو الجود وافق، لكن قال جملة سم فيها بَدَن فلان. قال إنه هوي راح يستفيد من هالفكرة كتير، منها بياكل هوي وأم الجود والولاد، ومنها بيترك الطعام اللي بيزيد لولاده.
قال أبو جهاد ممازحاً: لا تستعجل، بيجوز فلان يقول لك (لفّ لي الأكل اللي زاد باكيت)!
كمال: خلاصة القصة، بحسب ما رواها الجاحظ، إنه رحنا وأكلنا من طعام فلان بطريقة انتقامية، كل واحد أكل تلات أضعاف إمكانياته، والحكمة المستفادة من هالحكاية إنه الضحك بيساعد ع الهضم، ولولاه كان ممكن نموت من حمولات الأكل ع المعدة.
أبو المراديس: فينا هلق نرجع لموضوعنا، وهوي إنه الصايمين بيحبوا يتفرجوا في التلفزيون، ويستمعوا في الإذاعة للبرامج الكوميدية، لأن الضحك بيساعدهم على هضم الأطعمة والأشربة الكتيرة اللي بيلتهموها في وقت الإفطار، وخلال السهرة لوقت ما يضرب الطوب.
وشرح لنا كمال أن ما نسميه "الطوب" في المناطق الشمالية يسميه أهل دمشق المدفع، فيقولون مدفع الإفطار، ومدفع الإمساك.. وأما كلمة طوب فهي تركية (Top)، وهون في المنطقة الأثرية بإسطنبول منطقة شهيرة اسمها Topkapı يعني باب المدفع. وقال إن الطوب في معرتمصرين في الستينيات كان عبارة عن مدفع صغير يُحشى بالخرق، وأشياء عديمة النفع، وقليل من البارود، وله فتيل، وكان مختصاً بإطلاقه في موعد الإفطار رجل طيب جداً من آل بدلة يلقب "أبو الليل"، وكان عدد كبير من أهالي البلدة يتمشون قبيل المغرب حتى يصلوا إلى البيدر الغربي الذي بُنيت فيه لاحقاً ثانوية البنات، والأولاد كانوا يذهبون إلى السوق ويشترون من الكعك اللين ذي الحجم الصغير الذي يسمى "كعك الصايم" ويتجهون إلى البيدر، وينتظرون حتى يطلق أبو الليل الطوب، فيبتهجون ويبدأون بالتهام الكعك، وكان أبو الليل يحذر من الاقتراب من الطوب، وهو يشعل الفتيل عندما يسمع الأذان ويركض هارباً لمسافة 15 متراً على الأقل.
أبو المراديس: أبو الليل من عيلتي، وبنفس الوقت كان جارنا في الحارة الغربية من معرتمصرين. هوي رجل وسيم، أشقر وعيونه زرق، حكوا لنا الأهل إنه كان في شبابه من أشجع الشجعان، منشان هيك لقبوه "أبو الليل".. وكانت والدته مَرَا كبيرة في العمر، ووصلت لوقت ما عاد تقدر تمشي، وهوي كان رجل مرضي (بار بوالدته)، وصار يطعميها بإيده، ويساعدها في قضاء حاجياتها، ولما يجي وقت السهرة كان يسألها أيش بتريدي يام؟ كانت تقول له، أحياناً، إنها حابة تروح تسهر في بيت إبنها التاني جنيد. وكان يشيلها على ظهره، أنا شفته أكتر من مرة وهوي شايل إمه باتجاه دار أخوه جنيد، أو في طريق العودة للدار. يا سيدي هدول الناس، بالأصح النماذج البشرية، موجودة في كل زمان ومكان.. أي نعم.