02 سبتمبر 2024
سمر رمضاني إدلبي (4)
أكثر من نصف طريق حلب اللاذقية القديم كان يقع ضمن أراضي محافظة إدلب، فعندما تصلُ السيارة القادمة من حلب إلى قرية معارة النعسان، شرقي مدينة إدلب، تمشي متجاوزة عدداً من القرى التابعة لإدلب، منها تفتناز وطعوم وبنش، حتى تدخل في مدينة إدلب، ومنها تذهب جنوباً إلى أريحا، فغرباً باتجاه جسر الشغور، صعوداً إلى أن تصل قرية الزعينية، وبعدها تدخل في حدود محافظة اللاذقية.
من هنا نستطيع أن نتابع الحديث الذي بدأناه في لقاء السمر الرمضاني الإدلبي الفائت عن جميل الأسد الذي كان يسيّر قافلة تتألف من ست سيارات مرسيدس شبحية زجاجُها أسود، يومياً، إلى حلب، وفي المساء تعود القافلة، وفي الذهاب والإياب كان ركابها الشبيحة يعتدون على الناس ويهينونهم.
قال أبو ابراهيم: أنا أعجبتني قصة الشبيحة تبع قافلة جميل الأسد مع الشاب اللي صادفوه واقف جنب "السكر" في قرية فريكة، وطلبوا منه ينقل حجارة السكر من يمين الطريق ليساره. يا ريت لو تحكي لنا أيش صار مع هالشاب المسكين.
قال أبو زاهر: قبلما يحكي لنا أبو مرداس قصة الشاب والسكر، أنا عندي معلومات مهمة عن جميل الأسد. متلما بتعرفوا، وقف في سنة 1983 مع شقيقه حافظ ضد رفعت، وكان لا بد من أن يرد حافظ الجميل لهالإنسان الطيب، فأعطاه الحق في استثمار الموانئ السورية، والتخليص الجمركي في المعابر الحدودية، أما العمل في التهريب فكان بالنسبة لجميل عبارة عن شيء ثانوي، أو متلما بيقولوا أهل معرتمصرين (نقل بعد عشا).. ولما مات جميل في سنة 2004 وقع خلاف إرثي بين زوجاته وأولاده على مبلغ ست مليارات دولار، هيّ عبارة عن الأموال النقدية الموجودة في حوزته، وللتذكير: كان الراتب الشهري للخريج الجامعي بهديكه الأيام حوالي ميتين وخمسين دولار فقط!
قال أبو الجود بلهجة تهكمية: لا تظلم الزلمة يا أبو زاهر، يعني إذا الخريج الجامعي كسلان وما بيعرف يستثمر أمواله ويزيد ثروته، أشو بيكون ذنب جميل الأسد؟!
قلت: كلام أبو زاهر فتح عندي الشهية على الكلام. يا سيدي، أنا، من أيام الثمانينات تعودت أسافر من إدلب إلى حلب، وأتقصد إني أزور مقهى القصر اللي كانوا يقعدوا فيها أدباء حلب، وأستمتع بصحبتهم وسماع أخبارهم الأدبية والاجتماعية، وخلال فترة قصيرة صار معظم أدباء حلب أصدقائي، وجميل الأسد، كان، بهديكه الأيام، آخد شهرة واسعة بأنه من أنشط المهربين الكبار في سورية، وأقواهم، وكان بنفس الوقت عضو في مجلس الشعب.. بتذكر إنه أحد أصدقائي الأدباء، بعدما سلم علي، وشربنا أنا وهوي قهوة اسبريسو من تحت إيدين صانع القهوة "نمر"، مد إيده على جيبه الداخلي، وأخرج قصاصة من جريدة "تشرين" اللي كانت صادرة بهداكا اليوم، وناولني إياها بطريقة سرية، وقال لي: شوف إش مكتوب هون..
قريت في القصاصة العبارة التالية: (دمشق- سانا- عضو مجلس الشعب جميل الأسد يطالب الحكومة بتشديد الإجراءات المتبعة في مكافحة التهريب!).. ولما قريتها ضحكت بصوت عالي، فقال لي صديقي: بترجاك خطيب، وطي صوتك، بلا فضايح..
فقلت له همساً: بدك أكتر من هيك فضايح؟ يخرب بيته، ما لقى شي يكافحه غير التهريب؟ ما بيعرف إنه هوي أكبر مهرب؟ فقال لي بجدية تامة:
- جميل الأسد ما عم يمزح ولا عم ينكت. لإنه إذا الحكومة حاربت التهريب، متلما هوي عم يطلب، بيرتفع ثمن البضائع اللي هوي بيهربها، وبيستفيد أكتر. ومتلما بتعرف هوي فوق الحكومة وفوق الشعب وفوق الشرطة، وما حدا بيسترجي يكافحه.
قال أبو زاهر: مو بس ما حدا بيسترجي يكافحه، أو يصادر بضاعته المهربة، جميل الأسد كان في سنة 1981 عم يحاول يبني لنفسه قاعدة سياسية جماهيرية واسعة، منشان هيك أسس جمعية الإمام المرتضى، ولعلمك هالجمعية لإدلب، وفي ناس انتسبوا إلها، ومن حسن الحظ إنه حافظ أمر بحلها في سنة 1983، بعد تجربته الصعبة مع رفعت، لأنه رفعت بعد ارتكابه عدة مجازر في حماه وسجن تدمر كبر وصار له أنصار في الجيش وفي السلطة، وصار يفكر جدياً بالاستيلاء ع السلطة.. وبالمناسبة، حافظ كان بيعرف إنه جمعية المرتضى مدعومة من إيران، ومع إنه علاقة حافظ بإيران قوية، ما رضي إنه تدخل إيران عن طريق شقيقه وتزاحمه ع السلطة..
قال أبو محمد: إنتوا عم تحكوا عن جميل وحافظ وإيران، وأنا عقلي عند الشاب ابن قرية فريكة.. وعم إنتظر حتى أعرف أيش صار معه.
قلت: الشاب كاد إنه يفقد عقله بسبب المحنة اللي لقى نفسه عم يتعرض لها، وأهل قرية فريكة والقرى المجاورة كلهم عرفوا بقصته، واختلفت الآراء وكترت الاقتراحات، واحد من الناس عرض عليه فكرة إنه أهل القرية يساعدوه في نقل السكر، لأنه إذا نقله وحده راح يتعب كتير، وإذا إجوا الشبيحة تاني يوم بيلاقوا كل شي تمام، وأكيد راح يعفوا عنه..
وواحد تاني قال له: لا ترد عليهم يلعن أبوهم كلاب..
والتالت قال له: طنش، أكيد من هون لبكرة الشبيحة راح ينسوا الموضوع..
والرابع طلب منه يغيب عن القرية كم يوم، وإذا صار شي أهل الضيعة بيخبروه.. والخامس قال إنه أحسن شي أهل الضيعة يعملوا كمين للسيارات تبع التهريب، فإذا تراذلوا بيهجموا عليهم وبيشلحوهم بواريدهم وبيدعسوهم قتلة بالأيدي والأرجل..
واللي صار في الواقع إنه الشاب هرب على قرية اسمها العنكاوي في طريق الغاب، بعدما أعلن، من قبيل التمويه، إنه بده يسافر لمدينة حمص، ويمكن من حمص يروح ع السلمية أو على قرية تل توت..
قال أبو محمد: والشبيحة؟
قلت: على حسب ما حكى لي واحد من أبناء المنطقة إنه بالفعل مروا تاني يوم من قرية فريكة، بس كانوا مسرعين، وفي طريق الرجعة شافوا رجل ختيار واقف قريب من السور، فوقفوا ونادوا له: تعال عم. تعال هنا.
جاء الرجل وقال: نعم؟
قال له: إذا شفت الشاب اللي طلبنا منه ينقل السكر من اليمين لليسار سلم لنا عليه وقله منيح إنه ما نقله.. بحضي بديني منظر هالسكر هون أحسن.
ومد رفيقه البارودة من الشباك وقال: تأييداً لكلام أبو يعرب خود هالمشط لعيون الطيبين. وأطلق محتويات المخزن بالكامل وتابعت السيارات طريقها.