سمر رمضاني إدلبي (10)

14 مايو 2020
+ الخط -
أبو النور لا يمارس ديبلوماسية المثانة

حكيت للأصدقاء في جلسة السمر الرمضانية حكاية من ذاكرتي. قلت لهم إن ما ذكروه عن زيارات الديبلوماسيين الغربيين لحافظ الأسد، خلال فترة حكمه، ومرض السكري الذي كان مصاباً به، ومصطلح "ديبلوماسية المثانة" الذي ابتكره وزير الخارجية الأميركي، جعلني أتذكر إبن بلدنا الظريف الرائع "أبو النور" الذي أصيب بالسكري وهو في الثلاثين من عمره.

أبو المراديس: ولما عرف أبو النور أنه مصاب بالسكري صار عنده اهتمام زائد بتحصيل ثقافة خاصة بالمرض، ولا سيما إنه هالمرض بيرافق الإنسان لآخر حياته. على هالأساس كان يسافر لحلب، ويشتري كتب ومجلات طبية، لإن إدلب في هديكه الأيام ما كان فيها مراكز توزيع صحف ومجلات.. وحكاية عدم وجود صحف في إدلب قديمة جداً، أنا بتذكر والدي الذي توفي في سنة 1967، كان يوصي واحد من السائقين اللي بيشتغلوا على خط (معرتمصرين- حلب) إنه يشتري له صحف ومجلات من اللي كانت متوفرة بهديك الأيام متل صحيفة المضحك المبكي والصياد وطبيبك، وقبلما يطلع من البيت كان يحط المجلات تحت الدشك، وأنا كنت إنتظر خروجه وإسحب المجلات وحدة ورا وحدة وإقرا فيها. وبالمناسبة كان هاد بداية اهتمامي بالقراءة، وكان مفيد جداً بالنسبة لحياتي كلها.

أبو محمد: هالحكي صحيح. الله يرحم والدك كان متعلم لحد الصف الرابع، لكن كان يقرا، وكان يكتب بخط جميل، وكان صوته جميل ومرة سمعت منه أغنية "عندما يأتي المساء".

أبو المراديس: صحيح. المهم إنه أبو النور كان يجيب المجلات الطبية المتخصصة من حلب، وأهمها مجلة "طبيبك" اللي أسسها الدكتور صبري القباني في سنة 1956، وكان فيها باب خاص بالردود على القراء، اتفق صبري القباني مع أديب إدلب الأول حسيب كيالي (1921- 1993)، على إنه يتولى الرد على القراء بطريقة مليانة مزاح دعابة، فاكتسبت هاي الصفحة أهمية خاصة لدى القراء في مختلف أنحاء الوطن العربي بفضل أستاذنا حسيب.


أبو ماهر: أنا شايف إنه السمر خلال شهر رمضان أحسن من الأيام العادية، لأنكم عم تعطونا معلومات ما كنا منعرفها.

أبو المراديس: بصراحة نحن ما خرجنا عن طبيعة سهرات "الإمتاع والمؤانسة" إلا في موضوع الأكل. قبل رمضان كنا ناكل بشكل طبيعي، أما في رمضان عم ناكل ونشرب زيادة. وطبعاً الحجر الصحي زاد في نسبة تناول الطعام حبتين. واللي عنده في البيت ميزان بيعرف أشو معنى هالحكي.

ضحك أبو الجود وقال: الحمد لله إنه ما عندي ميزان، وبنفس الوقت ما عندي أكل!

أبو المراديس: طيب يا أصدقاء، حتى ما نضيع راس الخيط، راح أخبركم إنه أبو النور صار يقرا في المجلات اللي كان يجيبها من حلب عن طبيعة "السكري" ومشاكلُه، وطلع بنتيجة إنه السكري مو مَرَضْ بسيطْ، إنما هوي (داء)، وما بيجوزْ نقول الداء السكري ونسكتْ، لازم نضيف لإسْمُه صفة (الوَبيل).

أبو زاهر: كان أبو النور رجل رائع، وكان يحكي حكايات طريفة.

أبو المراديس: مو بس طريفة، أبو النور كان يحكي الحكاية نفسها في أكتر من مناسبة، وبطرق مختلفة. السبب إنه كان يضيف للقصة الواقعية أحداث ووقائع من بنات خياله. والهدف من الإضافات هوي تجميلها، وجعلها مضحكة، ومسلية.

أبو محمد: ما بتحفظ شي وحدة من قصصه؟

أبو المراديس: مو قصة واحدة، أنا بحفظ كل قصصه، بدون استثناء. كنت لما إلتقي فيه أعمل له مقدمات لحتى أخليه يوصل لقصة معينة ويحكيها. ومرة من المرات قلت له إنته يا أبو النور لازم تعين عندك سكرتيرة تحفظ قصصك، وتصنف لك إياها في ملفات، مثلاً: ملف قصص أبو عبوش- ملف العم أبو سليم- ملفات قصص الجباية- ملفات مطعم العندليب- ملفات صداقتك مع أبو صلاح- ملفات السكري الوبيل..

أبو محمد: لسه عم نستنى القصة اللي وعدتنا فيها بأول السهرة.

قلت: نعم. والقصة إلها علاقة بموضوع السكري وديبلوماسية المثانة. بتذكر إني كنت قاعد مع أبو النور في "قهوة حَمْشَدُّو" القريب من بازار إدلب، وأجت سيرة الداء السكري الوبيل، فقال لي أنا يا أبو المراديس بحب إقعد في هاي القهوة لأنه المرحاض تبعها واسع ونضيف، ولما بروح من هون على بيتي في الحارة الشمالية بلاقي على طريقي مجموعة من المراحيض العامة، وهادا شي جميل، لإنه مريض السكري لما بيكونْ مزنوق ما بيحسنْ يتحمل أو يصبر على الزنقة أكتر من تلات أو أربع دقايق. لكن في بعض الأحيان بتصير مواقف بتخلي الإنسان يدخل في الحيط.

قلت له: متل أيش هالمواقف مثلاً؟

قال لي: أنا متعود إني قبلما أغادر المقهى بدخل ع الحمام، بتبول من باب الاحتياط، وبطلع، وبهالحالة ممكن إبقى صامد حتى أوصل بيتي. وفي يوم من الأيام، قبلما إطلع من المقهى دخل "الحجي عاصم"، وأعلمني إنه كتير هوي مضطر يشوفني، لأنه في موضوع بده يناقشه معي. ومن العادات السيئة الخاصة بـ الحجي عاصم أنه كان يتأبط ذراع غريمه (يعني صديقه) وما عاد يفلته مهما كلف الأمر. وبما أني أنا طويل وهوي قصير فكان لما يتأبط ذراعي يصير كل تقله علي، يعني أنا بمشي وكأني شايل في إيدي سلة مليانة غراض تقيلة. لما شافني الحجي عاصم طالِعْ من القهوة تعلق في إيدي وصار يجرني دون أي اعتبار لموضوع المثانة. ووقت وصلنا لعند جامع الحمصي حاولت أفلت حالي منه وأدخل على التواليتات الخاصة بالجامع، لكن هوي ما أعطاني فرصة. مشينا باتجاه الشمال، ومن ورا عيادة عبد الرزاق جبيرو نزلنا باتجاه الشرق، ومن هون صرت أفكر إني لازم إدخل على تواليتات جامع العمري اللي صارت على بعد مية متر فقط، وإذا ما دخلت ممكن تخرج أمور مثانتي من تحت السيطرة! ولما اقتربنا من باب التواليتات وقف الحجي عاصم فجأة وقال لي: بقلك بقى يا أبو النور أيش هوي الموضوع اللي بدي أناقشه معك؟

قلت له: لأ. لا تقلي!

قال لي: غريبة منك. يعني ما بتحب تعرف أيش هوي الموضوع؟

قلت له: لا أبداً، ما بحب أعرفه.

وفلتت حالي منه وركضت باتجاه التواليتات بسرعة هائلة.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...